مدخل/ في جنّةِ الشعر أم خارجها؟!
من قال إن الشعراء وحدهم محتكرو الابداع، والقابعون سُعداء في سُدَّته، وإن البوح مقتَصَرٌ عليهم من دون سائر البشر؟!
من يقُلْ ذلك جازماً، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً، إذْ لكلّ امرئ مساحةٌ، قد تتسع أو قد تضيق، يعزفُ بين جنباتها لحن مشاعره، وتفيض نفسه بخواطر، تتجاوزُ أحياناً ما يبلُغُُهُ الشعراء الشعراء!
هكذا ، والحالُ هذه، نغدو في حيرة من أمرنا، حين نُستفتى في من يقولون شعراً، ولم يُرسموا في “أبرشية الشعر”، ونروحُ ساعتها إلى التساؤل: هل نحسبهم في عِداد الشعراء، أم نضعهم خارج مملكتهم، التي لا تُفتحُ أبوابُها إلاّ لمن أُجيز “رسمياً” في وادي عبقر، وتُوحي له شياطينُهُ بما تُوحي؟!
هي قصتي مع عبد الرزاق كبارة ومع أقرانه، في وقت يتكاثر الشعراء كالفطر، ويقلّ الشعر الحلال!
وإذْ نخوض في غمارِ هذه المسألة، يحضرُ إلى الذهن ما يُنسب، من قولٍ، إلى النبي محمد (ص):” القُضاةُ ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنّة، وإثنان في النار!”، ونشفع هذا القول بما ذهب إليه أرسطو، حين خالف معلّمه أفلاطون، في بعض آرائه، فكانت من لدُنه كلمةٌ، ينبغي أن يترسّمها الباحثون، في مختلف الحقول المعرفية:”أنا صديقٌ لأفلاطون، ولكني صديقٌ للحقيقةِ أكثر!”
مُقايسةً والتزاماً، أُعلنُ على الملأ بأنني صديق لعبد الرزاق كبارة، أصدُقُهُ القول، وأنني مُقيمٌ على صداقته إلى يوم الدين، ولكنني منتصرٌ للحقيقة، بكل عُريها!
“لحن المشاعر”/ موضوعاتٍ ولوناً أدبياً:
على جاري عادتي ، لدى مقاربتي أي نتاج فكري، فقد قرأتُ الكتاب، موضوع ندوتنا، مرتين: أولاهما، في إطار عملية مسح بانورامية، فأتملّى منه، وثانيهما، محللاً ومفككاً.
ولقد تحصل لنا، إثر هاتين القراءتين، أن هذا الكتاب، بنصوصه التسعةِ والثمانين، وبمقتطفاتٍ من حدائق أديبنا، تتقاسمُهُ ثلاثة أبواب كبرى، يروح أولها- وهو الأوفى مساحة- إلى عالم المرأة، حيث لفن الغزل حضورٌ، بشقّيهِ، الشهوي والاستعطافي. أما ثاني الأبواب، فثمة محطاتٌ، تُفسح للشؤون السياسية والوطنية وشجونهما. “عن الباب الثالث، فقد استهلكته الهواجس التي تستبد بأديبنا، وقد بلغ من العمر مرحلةً متقدمة، تُؤذن باقتراب الأجل، فتوجّه إلى ربه ملتمساً عفوه، جرّاء ما اقترف من سيّء الأعمال!
وإلى هذه الأبواب ثلاثتها، نقع على موضوعات مُتفرقة، لا يجمعها جامع!
.. عن الطابع العام للنصوص، غزلاً وسياسةً ووطنياتٍ وأسىً لعُمرٍ على طريق الأُفول، فهو يتّسِمُ ببُعدٍ وجداني، وتنمُّ النصوص جميعها عن تجربةٍ عميقةٍ عاشها أديبُنا، الذي تستبدّ به هجرتان، هجرة أولى حين ترك وطنه لبنان، عشية الحرب الأهلية، فيمّم شطر “كاراساو”، حيث أنشأ عائلةً، ترسّخت جذورها في تلك الجزيرة، وحقق نجاحاً في ميدان عمله. أما الهجرة الثانية، فقد تمثّلت بعودته وحيداً إلى مسقطِهِ الفيحاء، مُخلِّفاً في وطنه الثاني هذه العائلة، مُكتفياً بإطلالاتٍ عليها، بين حين وآخر!
.. وفي غوصٍ على شخصية أديبنا، فهو لم يَزَلْ ذلك الطرابلسي الأصيل المعتّق، المتشبّث بطرابلسيتٍِهِ، والعاضَّ عليها بالنواجذ! وهو ، في الوقت عينه، “الكاراساوي” الآتي إلينا، من إحدى جنات عدنٍ، المزروعة في القلب، من البحر الكاريبي، والواقعة خارج حزام الأعاصير! بل هي الجزيرة المنمازة بشواطئها الساحرة،وساحاتها الخُضر وأجوائها المبهجة!
ولقد كان لهذه البيئة الجديدة الخلاّبة أن ترزق عبد الرزاق سحر الكلمة، ونفساً “خضراء” عاصيةً على يباس!، وأن توسِّع من مساحته الفكرية والمعرفية.
ذلك اللبناني- الكاراساوي، يعود إلينا، مزهوّاً، وقد كُرِّم في مهجره، حيث حاز، في العام 2010، مرتبة الشعر الأولى، تثميناً لديوانه الشعري بالإسبانية Poesia Antiano… يأتينا، هذه العشيّة ، بلحنِ مشاعره، مُتحدّياً ومعلناً بأنه قادرٌ، رُغم انقطاعه المديد عن العربية، على أن يستكمل شاعريته، بلغة الآباء والأجداد!
يُطلقُها عبد الرزاق كبارة مدوّية، على غرار هاملت الشكسبيري:” أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة!”.
أجل! تلك هي المسألة، فإما أن يُحتسب، في عِداد الشعراء، وإما أن يبقى خارج السور الذي يعتصمون داخل جدرانه!
“لحن المشاعر” في الميزان:
ما يقرب من نصف النصوص يُؤشِّر، عبر العناوين، على المرأة، فكان حقلٌ معجمي ثرّ، يُنبئُ عن حضورها،وهاكم بعض عناوين: “سآتي إليكِ” (ص 1)، وهو أول نصوص الكتاب، إذْ تغدو المرأة الهدف والمبتغى، “قمري إنتِ” ( ص ص 2-3)، ” فن العلاقة” ( ص 4)، “حبيبتي” (ص 8)، “العشق المجنون” (ص 9-10)، “عيد العشاق” ( ص ص 29-30)، “حاكمتني” ( ص ص 124- 125)، “عشق الجسد” ( ص ص 146- 147).. الخ.
إشارةٌ إلى أن حضور المرأة، في الديوان، لا يستقيم إلا بحضور الشاعر، فإذا هما شاغلان المشهد: ذوب حب وعشق، إلى حالات شبقية مُتأججة، تجتاح شاعرنا، لا تُطفئها إلا عملية تواصُل بين الجسدين! هنا تكمن فلسفة عبد الرزاق كبارة في المرأة، فإذا بُغْيتُهُ، من شريكته أوحبيبتِهِ، تكاد تُقتصر على تواصل الأجساد، في حُمّى من شهوانية عارمة، لا تُخفف من غلوائها بعض العبارات، ذات البُعد الروحاني، التي يتوسّلها الشعراء العّذريون!
ولقد ألمعنا، في موضع سابق، إلى السِمة الاستعطافية التي تطبع بعض القصائد الغزلية، فإذا هو يتوسّل إلى المرأة، ويرى إلى نفسه أسيراً لديها، وليصل إلى حدّ إهراق ماء الوجه! هي العبودية، بكامل أوصافها وأعراضها، تنمّ عن نزعةٍ استسلامية أمام المرأة!
كل أولئك، تأسِّياً بالمقولة المكيافللية “الغاية تبرِّر الوسيلة!”.
والغاية لدى شاعرنا مُفتضحٌ أمرُها، وهو لا يرى حرجاً في الجهر بها!
وإذْ نوردُ بعض شواهد، فمن منطلق صُدقية ما نذهب إليه. ففي نص عنوانُهُ “عشق الكبار” (ص ص 5-6)،تحضر حاسةُ التذوّق، مُتجاوزةً إلى ما وراء وظيفتها العادية! :” يحلو صباحُكِ بالقُبلْ/ فالطعمُ قد ضاهى العَسَلْ”. هكذا، تعزيزاً للبُعد الشهواني- الجسداني، يُرى إلى الفم كنافذةٍ للشهوة، إذْ بإخضاعه يسقط الجسدُ، بكامل حصونه!
وعن ذلك العسل الرُضاب، نستزيد:” قبّلتْها ومذاقُ الثغر العسلْ/ فرجوتُها أن تزيدَ من القُبَلْ” (ص 8) فالقُبل زادُهُ، يتعيّش عليه، “إنْ رضيتِ بصُحبتي/ معيشتي من القُبَل” ( ص 122).
وكم يتمنّى أن يلوكَ كل ما فيها، علّ الإحساس بالارتواء يبلغ، لدى الشاعر، مداه الأبعد:” لا تُسيئي الظن بي/ انت أكلي ومشربي/ وحياتي كلُّها/ فارحمي وتقرَّبي” (ص 157 من الحدائق). وفي حُمى هذه الحالة، ” ويرجفُ النهدُ إن مسّ يدي/ وتصرخي الآه في ضمّ وشمّْ” (ص 159).
.. في انعطافة أخرى إلى حاسةِ التذوق، بأعلى درجاتها، ها هو يشتهي المحبوبة رغيفاً ساخناً، خارجاً للتوّ من بيت النار “أشتهيكِ كما أشتهي الرغيف الساخنْ/ أنتِ ملاكي وحُبّكِ في القلبِ ساكنْ”.
وفي عملية اجتياحية، لا تغادر من الجسد، كبيرةً أو صغيرة، يطلب إليها أن تُشرِّع له كل الأبواب:”… ودعيني أتفقّدُ كل الأماكنْ” (ص 14).
وفي استدعاءٍ لحاسةِ الشمّ، فيتكامل فعلُ الحواس فصولاً، ها هو يتوجّه إلى محبوبتِهِ قائلاً:” اقتربي مني وعانقيني/ دعيني أشمُّك دعيني” (ص 85).
وإذْ تُشهرُ عليه شهوتها، فليس له إلا تعانق الجسدين، إلى حدّ الالتصاق ببعضهما بعضاً:” تُلاحقني بشهوتها/ فكيف أُجيبُ رغبتها/ تعانقنا بأجسادٍ/بالقُبلات نزرعُها” ( ص 23).
.. أما عن عبوديته للمرأة، فحدِّث ولا حرج، ولنُصِخْ إليه السمع، معترفاً بضعفه: “ضعفي أنا في قلب كل امرأة/ تهواني حتى صيّرتني عبدها/ هي روحي وعطاءُ سعادتي/ لا أستطيعُ تخيُّلي من دونها” (ص ص : 63- 64).
هو راضٍ بأن يرسف في أغلال العبودية “.. إني تقبّلتُ القيودْ/ ولها سأبقى كالأسير!” (ص 124).
وقد كان لهذه العبودية، التي ارتضاها، أن تسمو لديه إلى مصاف التقديس والعبادة:” لو لم يكن في الأرض ربٌ يُعبدُ/ لما عبدتُ بمعبدٍ إلاّكِ/ لا تسأليني ماذا يُسعدني/ فالسِرُّ يُعرف حين ألقاكِ!” ( ص ص : 103- 104).. الخ.
… عن الباب الثاني، سياسياتٍ ووطنيات، فإن عبد الرزاق كبارة، مُنطلقاً من نزعة وطنية، مُتأصّلةٍ لديه، يصبُّ جام غضبه على الساسة الذين خرّبوا البلاد، وعاثوا فيها فساداً، وأذاقوا الشعب مُرّ المعاناة. وهو لا يتورّع عن أن يكيل لهم أقسى عبارات الذم، جرّاء ما اقترفت أيديهم من ارتكابات، ترقى إلى حد الجرائم، بحق مجتمعهم والوطن!
في إطار وطنياته، يُسفِّهُ الصراع المفتعل بين شيعي وسُنّي، مُنطلقُهُ أحداث طاعنةٌ في الزمن، عفّى عليها الزمن! وإذْ نتخيّر شواهد، في هذا المجال، نتوقف عند قصيدته “حلم وأمل” ( ص ص 34- 35)، حيث يخاف أن يحلّ ببلده ما أصاب الجوار (سوريا)، فينزلق لبنان إلى شفا إنهيار! من هُنا، كانت دعوته إلى تغليب المحبة والوئام فيما بيننا، “.. وهُنا السؤال يا تُرى هل يمكن/ أن نُصابَ بما أُصيب به الجوارْ/ إن كنا نبغي أن نُشيّد وطناً/ فالحبُ وحده بيننا يغدو انتصارْ/ نتشاركُ الأفكار كي نحمي الوطنْ/ ونُعيدَ للشعب الجريح الاعتبارْ”.
في قصيدة، عنوانها “نداء الوطن” ( ص ص 38- 39)، يدعو إلى إنقاذ لبنان مما يُحاك له من شرور :” إلامَ يا شعبي نختبئ خلف ا لصخورْ/ هبّوا لننقذ وطننا من مخالبِ الشرورْ/ ونُعيد في أرجائه العدالة والسرورْ”.
في قصيدة “صرخة وطن” (ص ص : 51- 52)، يدعو إلى حماية الوطن من منعكسات الصراع المفتعل بين الطوائف والمذاهب، فيرى أننا جميعاً عرب، فلا يُفرِّقنا مفرِّق:”… والعقدة في مذهبي/ سنّي وشيعي ودرزيٌّ/ مَنْ منا ليس عربي/ وشريكنا المسيحيّ/ يعتزُّ به وطني/ .. دعونا نحمي أرضنا/ فهذا كلّ مطلبي”.
وإذْ ينتقل إلى بلاد العُرب قاطبة، مُتعدّياً حدود وطنه، نراه في قصيدته “أين العرب”(ص 67)، يدعو إلى تناسي الخلافات ، فيُغلَّب الانتماء الوطني على ما عداه من انتماءات ضيقة:” .. يا عُرب قد هدموا علينا دارَنا/ لا أمنَ بعد خلافنا يا أُخوتي/ دعوا المذاهب جانباً وتوحدّوا/ لن أُبيحَ لمذهبٍ وطنيّتي”.
.. بعبورنا إلى الباب الثالث نجد أن شاعرنا يعيش على صفيح من القلق ساخن، فسنوات العُمر تمضي سراعاً، وليس له إلاّ الاستعداد لذلك اليوم الذي يرتحل فيه عن الدُنيا، لملاقاة ربٍ عفوٍّ غفورٍ رحيم، سوف يرأف بحالته إذا ما دعاه، وبذا يتقي عذاب جهنّم وبئس المصير! ولقد بدا شاعرنا ذا نزعة دينية صادقة، مؤمناً بالبعث في الدار الآخرة.
وإذا كان لنا أن نتمثّل بشواهد، في هذا الباب، فلكي نتعرّف طويَّة الشاعر الحقيقية، والتي لا يُخفيها الضجيج الذي يُثيره حول نزوعه “الدونجواني”، الذي يُفاخر به،ولو بلغ من العُمر عتيّاً! فروح الشباب أسقطت عنده عبء السنين، وليغدو المراهق الذي يأبى أن يشيخ!
وإذْ يتجاوز السبعين، فقد أبدع، عبر مُناجاة ربه، داعياً إلى أن يمدّه بقوة العزيمة وأن يرحمه ويغفر ذنوبه:” ربّاهُ قوِّ عزيمتي/ وارحمني إنْ حان الأجلْ/ واغفرْ لعبدكَ ذنبهُ/ لا شيء في الدُنيا اكتملْ/.. رحماك ربي حياتُنا/ إغراؤها لا يُحتمل” (ص ص : 71- 73).
وفي قصيدة أخرى، عنوانها “سبعون”، يعترف بوطأة العمر على حامله، ويُعلن توبته، كي يُغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر:” عند بلوغكَ السبعين/… لا تُجدي في الجسم الضنين/.. فمن يثُبْ لربّه/ فاز بكأسِ الصالحين/ ومن يهُنْ إيمانُهُ/ يذُق عذاب الكافرين” ( ص ص : 94- 95).
وإذْ كانت من لدنِهِ توبةٌ نصوحٌ في الدُنيا، فطمعاً بحوْرِ العين في الدار الآخرة:” أخرَجتُ إبليس من صدري/ وتُبتُ عن عشقِ النساءْ/ رضيتُ بما ملكتْ يدي/ لكني لا أخفي على أحدِ/ طمعي بحور العين أبدي” (ص: 98).
وفي قصيدة، عنوانها “الأجل”، يتوجه إلى ربه، مستعطفاً مسترحماً:
“.. واعفُ عني إن سألتك/ فأنت أدرى بحالتي/ يا غافرَ كل الذنوبِ/ ارحمْ صنيع شقاوتي” (ص : 6).
خاتمــة: عودٌ على بدء/ كبارة وموقعهُ من عالم الشعر والشعراء!
إذْ عكفنا على موقعةِ النصوص التي حواها “لحن المشاعر” في نطاق فنٍ من الفنون الشعرية، فقد استعصى علينا ردُّها إلى شكل من الأشكال الشعرية المعروفة. فلا هي منتميةٌ حصراً إلى الشعر العمودي الكلاسيكي، حيث يكون التزامٌ صارمٌ بالبحور الخليلية، وإن كان لكبارة بعض التزام في هذا المجال. وهي لا تنتسبُ حصراً إلى قصيدة النثر، إذْ تفتقر إلى عدد من المعايير التي تقوم عليها والركائز.
هكذا، جاءت القصائد، بمعظمها،نتاج خلطةٍ من شعر عمودي وشعر حرّ، لها من الشعر العمودي الشكل الخارجي، المتمثل بالصدور والأعجاز، إلى التزام القافية والروي. وقد توسّل ، في القصيدة الواحدة، مزيجاً من تفعيلات تنتمي إلى بحور مُتعددة، ولم تنجُ من ذلك إلاّ بعض قصائد، إلى قصائد أخرى بحاجة إلى بعض “روتشة”، كي يُكتب لها النجاة!
لقد توهّم عبد الرزاق كبارة بأن الإيقاع والروي، اللذين التزمهما في ديوانه،هما جسرُ عبوره إلى عالَم الشعر العمودي، فأخطأ الحساب!ولو قُدِّرَ له أن يستعين بأحد مُتقني علم العروض، لارتقى ببعض قصائده إلى مصاف الشعراء الشعراء. وكمثالٍ على ذلك، حتى لا يبقى كلامنا، في الإطار التنظيري، فقد عمدنا إلى قصيدة ، عنوانها، “منقّبة” (ص 130)، وأجرينا عليها تعديلاً بسيطاً، ما بين حذفٍ وقصر، فجاءت على الوجه الآتي:
وجهكِ خلف الحجابْ/مثلُ نجمٍ في الضبابْ/ فجمالُ روحكِ/ لا يُواريهِ السحابْ /(توسّل كبارة فعل يُخبِّئهُ، فأخرج القصيدة وزناً عن مجزوء الرمل) قد يُعابُ الجسمُ حين تُغطّيه الثياب/ (في الأصل: قد يُعيب الجسدَ/ أن يُغطّى بالثياب)/ فاسمحي لي أن أرى/ ما يليقُ بالعذابْ/ شعرَكِ أم جيدَكِ/ واملئي الكأسَ شرابْ/ كيما أجلو النظرَ/ ويعود لي الشبابْ”( في الأصل: كي أُمتِّع نظري/ واستعيدَ الشبابْ).
هكذا، ببعض بحصٍ/ كلام – إذا جاز القول- أسندنا “خابية” هذه القصيدة، فاستقامت ، واندرجت تحت الشعر العمودي، ولم تشُبْها شائبة!
.. في نهاية المطاف، حبّذا لو ترك عبد الرزاق كبارة العنان لقريحته الشعرية، مُتفلِّتةً من القيود التي حسب أنها تشدّ قصائده إلى لونٍ شعريٍّ معيّن أو إلى لونٍ آخر ، إذْ ذاك يضمنُ عبوراً إلى باب الخواطر، الذي لا يقلّ جمالاً عن سائر الفنون الأدبية-هي نصيحة أُسديها إلى كثيرين من أصحاب المحاولات الشعرية التي لم تكتمل!
حبذا لو راح إلى غابةٍ عذراء، يعزف في فضائها ألحان مشاعره، ولم يُحتبس في أقفاص شعريةٍ، تضربُ على نزلائها حصاراً لا يستطيعون التحرّر من أساره!
وحبّذا أخيراً، حالَ إصراره على دخول جنة الشعر، أن يُعيد النظر في ديوانه، فهو ليس بحاجة إلى “ورشة” كبيرة،وساعتها تبلغ ألحانه الأسماع من دون أن تخدشها، وتتنزّل بردا وسلاماً على القلوب!
أقولُ قولي هذا،وقولي يحتمل صحيحَ الرأي كما الغلط، وما أنا إلاّ مجتهدٌ، أحرصُ على الشهادة للحقيقة والانتصار لها!
****
(*) ألقيت في الندوة حول كتاب “لحن المشاعر” للشاعر د. عبدالرزاق كبارة، في الرابطة الثقافية- طرابلس ، بتاريخ 14- 3- 2019 (من دون دار نشر)، 2019، تحدث فيها د. مصطفى الحلوة و د. جان توما، وتخللها رسم مباشر للفنان عمران ياسين، وأدارتها المهندسة والشاعرة ميراي شحادة.