أضواء على عالم سفلي غارق
في بلد يكتنفه الغموض
كلود أبو شقرا
منذ وُجدت المجتمعات البشرية، تنازعها وجهان: علني وسري، الأول مصطنع والثاني حقيقي، لذا ليس عجباً أن يختبئ الأول وراء أقنعة تفرضها المصالح والتقاليد، فيما تتنازع الثاني قسمات الواقع كما هو بعلاته ومعاناته ومآسيه.
حول هذه الفكرة بالذات تدور مسرحية “أسرار”، كتابة جعفر العطار وإخراجه (تعرض على خشبة مسرح المدينة)، غائصة في البعد الحقيقي للحالات الاجتماعية التي توجه المسار باتجاهات معاكسة للقناعات والمخطط الذي نضعه لحياتنا ومستقبلنا…
تتمحور مسرحية “أسرار” حول ثلاث فتيات يعملن في مهنة سرية ممنوعة رسميّاً ومنبوذة اجتماعيّاً، تقابلها حياة علنيّة مزخرفة ومختلفة عن عالمهن السفلي الغامض والغارق في أسراره. لكن هذا العالم ستظهر بعضًا من ملامحه المتوارية، بعد دخول جاد في كواليسه وتهديدها بالانكشاف، مكتشفًا جانبًا آخر من تلك الحياة المدفونة في بلد تجذبه الأسرار.
مع مسرحية “اسرار” يتحوّل مسرح المدينة إلى مساحة تتنازعها ثنائية الظلمة والضوء، ثنائية البحث عن الحقيقة ومحاولة طمسها خدمة لمصلحة معينة، وهذا ما يرمز إليه بطل المسرحية الصحافي الشاب الذي يغوص في تحقيقه الصحافي في كواليس عالم الدعارة الغامض، وكيف يعيش من يتعاطاه حياتين، واحدة سريّة محورها الدعارة وأخرى علنية لا تختلف عن حياة بقية الناس، ويكتشف أن هذه المرأة او تلك التي تمارس ما يعتبر عيبًا وعارًا، إنما هي ضحية أوضاع اجتماعية وعائلية فرضت عليها هذه الطريق، في المقابل يتظاهر البعض بالعفة فيما هو يمارس في السرّ صفقات وأموراً تضرّ بالآخرين وهي أبشع من الدعارة…
الفتيات اللواتي التقاهن الصحافي الشاب هن مرآة للمجتمع اليوم من النواحي كافة النفسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية… وقد حرص المخرج جعفر العطار على التركيز على هذه الناحية ليبرز أن ثمة زيفًا يسيطر على العقليات والنظرة إلى الآخر، كاشفًا بعض “العورات”، إذا صحّ التعبير، التي تتحكّم بالتصرّفات، وذلك من خلال القصص التي تصادفها النساء في عملهن مع الزبائن ويروينها للصحافي…
لا يبرر جعفر العطار في المسرحية عمل تلك النساء في الدعارة، بل يترك المجال لكل واحدة منهن أن تكشف الأسباب التي دفعتها إلى هذه الطريق تاركًا للمشاهد مهمة التقييم، وهنا لا بد من التنويه بأن الحوار يعتمد الوضوح والمباشرة في طرح القضايا، فيجذب انتباه المشاهد إلى حالات النساء، فضلا عن أن حركة الممثلين على المسرح التي تتواءم والحوار بشكل متوازٍ، تدخل المسرحية في نطاق البوح الغارق في عمق الحياة ولم تعد نصاً ممسرحاً فحسب…
“أسرار” ليست مسرحية تأخذ من الدعارة موضوعًا للتسويق، بل تسخر هذه القضية للإضاءة على الجانب الإنساني لا سيما المآسي التي تعانيها من تمشي مكرهة في هذه الطريق لتأمن شر العوز والجوع التشرد، ولتوفير القوت لأولادها، فلا يجوز بالتالي أن ترجم هذه المرأة بل أن يُنظر إليها برأفة وعدل…
***
مسرحية “أسرار”، هي تجربة جعفر العطار الأولى في الإخراج المسرحي، والثالثة في الكتابة للمسرح. تمثيل: محمد حجيجي، زينة حريري، فرح بزري، نور غندور، هيبة الجزار، بالاشتراك مع نادر جبوري. إدارة إنتاج: سالي أبو دياب، كوريغرافيا: مايا سبعلي، إضاءة: محمد فرحات، إدارة لوجستية: ربيع ياسين، سينوغرافيا: جوليان خطار، تصميم غرافيكس: راشيل بو خليل، موسيقى: مايك ماسي، تصوير ابراهيم قاسم.