ريمون شويتي حول معرضه الجديد “ترانيم صامتة” في غاليري نايلة في الرياض:

لوحاتي صوفية المنحى وتدعو إلى عالم نظيف

من الأنانية  والتلوث والموبقات

raymond newwww

painting كلود أبو شقرا

في لوحاته الجديدة “ترانيم صامتة” (تعرض بين 26 مارس و30 منه في غاليري نايلة في الرياض)،  يضفي الرسام التشكيلي اللبناني ريمون شويتي أبعادًا جديدة على الخط واللون تتوغل عميقاً في الروحانية، ويبتكر فلسفة تشكيلية تؤسن المادة وتجعلها تنبض بالحركة التي هي صنو الحياة…

على مدى أكثر من أربعين عامًا، يقيم ريمون شويتي علاقة وثيقة مع اللوحة، ويعكس من خلالها نظرته ورؤيته للرسم، فقطع مراحل عدة إلى أن وصل في لوحاته الأخيرة إلى مرحلة الهندسة الفراغية التي ألغى فيها الحدود بين المرئي واللامرئي، بين المحسوس واللامحسوس، وحلق بريشته إلى ما وراء الأفق بحثًا عن أجوبة لأسئلة طالما طرحها حول الوجود والحياة والموت والعدم…

شلال نابض باللون، هكذا يمكن اختصار لوحات ريمون شويتي الجديدة، فهو يستمد هذا الدفق من طبيعة لبنان المكللة بالنور ومن الصحراء المترامية التي يضجّ الصمت فيها ألوانًا لا تستكين ولا تكلّ.

حول معرضه الجديد كان الحوار التالي مع الرسام التشكيلي ريمون شويتي.

paint

عنوان معرضك الجديد “ترانيم صامتة” إلى ما يرمز العنوان؟

“ترانيم صامتة”، خفقان أحاسيسي وحوارات أقمتها مع نفسي خلال مشواري الطويل الذي مشيته منذ وعيت على الدنيا. هي محادثات بين سؤال وجواب عن نفسي وكأنني في جلسة لدى طبيب نفسي أهملت اسئلته وباتت أجوبتي تكرج كرجا بتواصل ذهني مع العالم المحيط بي، وعن أشخاص مروا في حياتي، عايشتهم وعايشوني.

“ترانيمي الصامتة”، مواجهة روحية مع اللامرئي واللامسموع، مع تلك القوة الخارقة ذات الوهج الساطع والنيّر. هي كلمات وددت أن اوجهها لأناس اشرح لهم فيها وجهة نظري فيهم، بخيباتي منهم وعتبي عليهم من دون أن أخدشهم، تاركًا آلامي ومعاناتي التي سببوها لي عن قصد وغير قصد وخيبة أملي منهم، أرددها لنفسي ومع نفسي كتراتيل، علّني بذلك أشفى منهم وأذكر الأشياء الحلوة التي لديهم فقط…. وما أقلها.

paint 1

الهندسة الفراغية

عدت إلى الهندسة الفراغية في تأليف لوحاتك الجديدة ما الذي حفزك إلى العودة؟

الهندسة الفراغية تستهويني منذ كنت على مقاعد الدراسة، وكان ينتابني شغف في حصة الهندسة الفراغية  عندما يرسم الأستاذ على اللوح الأسود مثلثات ودوائر وخطوطًا متوازية.  أمام كل خط أفقي كنت ألج إلى داخله وأتخيل نفسي مخترقاً سهل البقاع راكضًا نحو الأفق اللامتناهي.

أما الدوائر فكانت بمثابة كرة أركض وراءها من دون أن التقطها، لأنه كان ممنوعًا علينا أن نلعب كرة في صغرنا، وكأنها كواكب من مجرات بعيدة أحاول أن أصلها لأستكشف مكنوناتها وخواتيمها وتضاريسها.

كنت ارسمها بطريقة مبسطة خلال حصص الهندسة الفراغية وأعطيها بمخيلتي بعداً ثالثا ورابعا أحيانا، قاذفًا بها ككوكب سقط من احدى المجرات، معاودًا ارجاعه إلى مداره حتى لا تتفكك تركيبته الكونية ويخفت وميضها ويضعف بثها، أو كأنها كرة قذفها لاعب أرعن فخرجت عن حدودها المرسومة وضاعت بين المشاهدين أو أصابت أحد الرؤوس ففقد توازنه الفكري والمنطقي. لذا من خلال درجة سماكة اللون أو شفافيته أسبر هذا العالم اللامتناهي الذي أصلا هو عالمي الخاص الذي ابتدعته لأنزوي به وأنفرد بأفكاري وفلسفتي الروحية الخاصة.

 وماذا بالنسبة إلى المثلثات؟

ترمز إلى طائرات الورقية التي تسبح في الفضاء الواسع، وكنت أعشقها وأحلم بتطييرها في طفولتي ومازلت، لكن كان ممنوعا علينا أن نلعب بها، بعدها ذهلت بتركيب الشكل الهرمي المثلث وهندسته السحرية.

بقيت هذه الذكريات عالقة في ذهني حتى بداية حياتي الفنية، إذ كان القدر كريمًا معي ووضع في طريقي  مجموعة من المثقفين والفنانين الأميركيين من بينهم ANAIS NIN  التي تبنتني وشجعتني وأقامت لي اول معرض فردي لي عام 1972 في مدينة مومباي بالهند، بعدها المفكرة والفيلسوفة IRENE RICE PEREIRA  التي زودتني بمعلومات هندسية وفكرية وفلسفية  وإمكانية مزج الفلسفة الهندسية بالعالم التشكيلي، وتركيب الأحجام الضخمة لديكور المسارح ولعبة التوازن بالأحجام وتأثيرها على إبهار الرؤية. آنذاك أستغربت التوجيهات الفنية، لكنني لم أستعن بها سوى في الفترة الأخيرة، وبمحض الصدفة حينما بدأت أفكر بتطوير أسلوبي في الرسم وتركيب اللوحة.

كيف تحدد الهندسة الفراغية؟

ليس للهندسة الفراغية أي تحديد، كل ما فيها من عناصر ملموسة أو وهمية يزداد وينقص، يتكاثر ويقلّ، يظهر ويضمحل، حسب تركيب العمل. فالخطوط المتوازية التي قد نعلم من أين انطلقت من دون أن نعلم وجهتها وإلى أين تصل، ليست سوى علاقة بين شخصين يجريان باتجاه واحد متوهمين أنهما سيبقيان معًا، وقد يصلان إلى نقطة التجلي والالتصاق الفكري والروحي، ولكن لا أحد يدري إن كانت تلك المرحلة فعلية أم مجرد وهم بالنسبة إلى أحد  هذين الخطين  فيما الخط الآخر  ليس سوى سراب يدغدغ العين ويداعبها، وتصبح العلاقة بينهما علاقة سادومازوشية. الدوائر تكبر وتصغر كأننا نراها من خلال عدسات مقعرة ومحدبة.

الهندسة الفراغية عالم لامحدود يترك لنا مجالًا خياليًا واسعًا، نغوص فيه ونخترع عالمنا الخاص ونبني من خلاله فلسفة ذاتية نحاول تطبيقها في حياتنا اليومية من دون أن ننفذ أو نسيطر على عوالم من هم حولنا بل نرضى بهم كما هم.

paint 2

 مرحلة جديدة

 على مدى مسيرتك الفنية دمجت مدارس فنية عدة وابتكرت أسلوبك الفني الخاص. هلى يمكن اعتبار معرضك الجديد مرحلة جديدة في تأليف اللوحة؟

مسيرتي الفنية كانت شائكة وشيقة، شائكة لأن مخيلتي لم تكن سوى مخزون لكافة أساليب الفنون التشكيلية بسبب مهنتي كمروج للفنون وعلاقتي بالفنانين اللبنانيين  والعرب والأجانب. وكنت حينها أحاول إنتاج عمل فني ما وأرى نفسي استعمل أسلوب أحد هؤلاء الفنانين من دون أن أقصد ذلك وبتلقائية بصرية كانت عالقة في ذهني . هنا كانت المعاناة تزداد ويصبح وقعها قاسيا علي. من ثم أعود وأحاول الرسم بأسلوب آخر وآخر، حتى وجدت أسلوبي الخاص الذي تبنيته وتبعته بإنتاج مجموعات عرضتها في لبنان والخارج ونالت استحسانًا بفعل في المناخ الروحي والصوفي الذي عكسته عليها.

ومن هنا بدأت ترانيمي بالدندنة المبهمة وبدت واضحة في مجموعتي هذه وشعرت بأن أصدق عنوان لها هو “ترانيم صامتة”.

تسيطر على لوحاتك الجديدة أجواء أقرب إلى الصوفية وكأن خطوطك وألوانك توغل بعيداً في الأفق اللامحدود، فهل قصدت من ذلك روحنة المادة وجعلها أقرب إلى القلب منها إلى العقل؟

لطالما بحثت عن الربط بين المادة الملموسة واللامرئية، وبما أنني وصلت إلى مرحلة من عمري تساعدني على التجرد من كل ما هو مادي، شعرت بتواصل صوفي يظهر جليًا في غموض سحر ألواني وشفافيتها، حتى تخطت الأفق اللامحدود وبذلك استطعت أن اروحن المادة واللون متطاولا على العقل ومتعاطفا مع القلب، وبسبب ميلي نحو القلب وابتعادي عن العقل وجدت نفسي أدفع ثمنًا باهظًا خاصة حينما كنت أسترسل بالعاطفة ضاربا عرض الحائط  الإنذارات التي كان يبثها لي العقل.

هل تهدف من خلال معرضك الجديد فلسفة اللون والخط؟

  فلسفة اللون والخط هي اندماج الاثنين معًا، هي آخر مرحلة من دوران الدرويش حين يصل إلى ذروة التواصل الروحي، حيث يلتصق الخط واللون ببعضهما البعض مشكلين كتلة نورانية مبهرة للعين والقلب، فيضيع المنطق والعقل في بحر من الشفافية الأثيرية ذات خلجات تنتشر في هذا الأفق الواسع واللامتناهي، وحينما يصل الخط واللون إلى هذه المرحلة يدخلان حالة انعدام الوزن ويحلقان في الأثير ويلتقيان بتلك الأرواح السابحة في طبقات المجرة.

 أين موقع الحلم في لوحاتك الجديدة؟

لوحاتي الجديدة هي الحلم بحد ذاته. الحلم الذي أتوق اليه، حلم لعالم شفاف نظيف خال من السموم والإشعاعات السرطانية التي تنهش الجسد والروح، فالحلم لدي هو التجييش الفكري النقي والفلسفة البنّاءة المطلقة التي تحرر الإنسان وتجرده من عبوديته للمادة وكل الصفات السلبية، وتعود به الى الصفاء والنقاء والبيئة النظيفة الخالية من مخلفات هذا الإنسان المدمر لكل مخلوقات الطبيعة.

على فكرة لدي لوحة في هذه المجموعة اسميتها ” أوكسجين” رسمت فيها كوكبًا جديدًا نظيفًا خاليًا من الغازات الفكرية والمادية السامة.

paint 3

بين الأردن ونيويورك

إلى من تتوجه في لوحاتك؟

أتوجه الى الإنسان ككل، إلى الإنسان المغلوب على أمره الضائع في متاهات هذا المجتمع المادي الفاسد حيث الغاية تبرر الوسيلة، أتوجه إلى الإنسان الآخر الذي هو عدو نفسه (وليته كان عدو نفسه فقط) وعدو الطبيعة والبشر، لا يبالي سوى بالمادة، وهو أقرب إلى القط الذي يلحس المبرد مسترسلا ومنتشيًا، يلعق لسانه والدم يسيل منه معتقدا أنه يلتهم قطعة لحم شهية. هذا هو الإنسان اللاواعي واللامدرك مدى خطورة رعونته وجشعه وطمعه، وعاجلا أم آجلا سيدفع ثمن لامبالاته باهظا.

كذلك  أتوجه الى الشرائح الإنسانية كافة علها تعي ما يجري حولنا من تدمير وخراب واضمحلال.

بعد معرضك في الرياض ما جديدك؟

ثمة معرض آخر في مدينة عمان يحضّر له صديقي الروائي والشاعر والناقد الفني محمد شمس الصوالحة بمساعدة زوجته الفنانة والشاعرة والروائية تبارك الياسين، سيتيح لي التعرف على الفن التشكيلي الأردني إذ باتت لي صداقات فكرية وفنية هناك.

كذلك لدي معرض آخر في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية عن طريق معلمي ومرشدي الفني ANDRE ZARRE  الذي  كان سببا في اثراء حياتي الفنية والفكرية على مدى خمسة وأربعين سنة.

raymond-chouityyy1

اترك رد