يَعتزي(1) جارُنا فارسُ في جَذرهِ لأُرومِ السِّنديان. نَديدُ الشِّبلِ في تَوَثُبِه. ما تَقعَّدَتْهُ عن مرامِيْهِ الحوائلُ، ولا حَبَسَتْهُ عُقَلُ الهُمومِ، أو أعاقَتْهُ موانِعُ الأقدارِ، ومَلَكَتْ عليه مذاهِبَهُ، فَقَصُرَ دونها باعُهُ، ولم تَرْقَ إليها هِمَّتُه.
يَتَزاوَرُ(2) في مِشْيَتِهِ إلى الحقلِ، ويَتَشادَقُ(3) في الغِناءِ عند “مَكسِرِ المي” أخْذَ عزيزٍ قادِرٍ، مُستَذْريًا(4) بالمطرِبينَ الكِبارِ، مُتَعَبِّبًا رَخامةَ حناجِرِهِم، وآنقَ حُلَلِ الجزالَةِ كُرْمانًا لخاطِرِ (مروى) حبيبتِهِ، الكاعِبِ الغَيْداءِ، بَرَزَةِ حِسانِ القريةِ، مَنْ تَتَشَيَّمُ(5) البنفسجَةَ رِقةً وسجاحَةَ خُلُق.
مروى، في العافيةِ عامّةً من المالِكينَ لأعناقِها، وفي الـمَلَكاتِ ومخايلِ السِّحْرِ يحومُ حولَها طائرُ الجمالِ، أُفرِغَتْ في قالِبِ البَدْعِ تقويمًا وصورةً وطَلْعَةَ مَوّال.
وإنّها لَشديدةُ الأَسْرِ، فاغَمَتْ أنفاسُها ثُغورَ الفواغي، ومن غُدرانِ مناهِلِها الزُلالِ تَسْتَوْفي بلابلُ الفَصاحةِ لُغاها، كأنّها خُوطُ(6) بانٍ إذا خَطَرَتْ. تَلْعاءُ الجِيدِ ورِئمٌ من آرامِ الجَنَّةِ، دَعْجاءُ الحَدَقِ، في فَتاءٍ لافِتٍ لو كانت شَمْسُهُ طالِعَةً في دارِكَ، لأَصَبْتَ نُورًا دُهريًّا يَتلألأُ على مَتْنِ بحرٍ، خرائدُهُ تَمتنِعُ إلاّ على غاصَةِ لُجَجٍ لا يَستكينونَ لِعَنَتٍ ولا لِعَقَبَةٍ عَنُود.
أمّا فارسُ في المواصفات:
فَضليعٌ، مُدْمَجُ الخَلْقِ، عَبْلُ الذراعينِ، غَليظُ الألواحِ، مليحُ القَسَمَةِ، مديدُ القُلَّةِ، يملأُ العينَ مَلاحةً تَأْنَسُ بها النواظِر.
ويا لَلْوجهِ الـمَسْنُونِ تقتَحِمُهُ بصيرتا عُقابٍ حادّتا الطَّرْفِ تُجيْدانِ الـمُسايَفَةَ، تَسْتَسْقِيانِ في سُعارِ الغَضَبِ شَررًا طاغيًا.
مثلما تَلْقى إذا تصافَحَ الجَفنانِ (مَرْجَ ابنِ عامِرَ) كأنَّهُ يَريشُ في النِّزالِ سِهاما. وله من تَقَفُّعِ يديهِ وخُشونَةِ مَمَسِّ أنامِلِهِ لِفَرطِ مُعاناةٍ مع التُربةِ مَجاسًّا قَفَّتْ قُفوفًا وتَقَبّضَتْ، كمن يَرِي الزَنْدَ على حَجَرٍ صَلْدٍ لِيَقبِسَ نارا.
بَلغَ مسامعي أنَّه ذاتَ دُجُنَّةٍ كانونيَّةٍ، وفيما كان عائِدًا من قريةِ (زرار الورد) أن ضَبُعًا استَرْوَحَهُ فاختَطاهُ وتثَوَّرَهُ قاطِعًا عليه سَيْرَهُ، فأرداهُ بِلَكمَةٍ من قَبْضَتِهِ الفولاذيّة.
وأنّ لُصوصًا قُطّاعَ طُرُقٍ اغتَفَلُوهُ مرّةً، فما استَخْذى ولا استَنامَ لِلضَّعَةِ وهو البَئيسُ النَّجِيدُ الّذي يَصونُ ديباجَتَهُ(7)، فَتَفَزّعُوا منه وتَرَوّعُوا، وانخَلَعَتْ قلوبُهُم، فأدْبَروا بِجراحِهِم لا يلوَوْنَ على شيء.
ويَروي الرُّواةُ أنّه “رَبَّعَ” جَرَسَ مار جاورجيوس لِقريةِ (كفرحائِل)، المشهودِ له باعتياصِهِ على نُخبةِ شُبّانِ الـمِنطَقَةِ، عَشَرَ دُفَعٍ مُتتاليةٍ بِيَدٍ واحِدَةٍ، وُقوفًا على رِجْلِهِ اليُسرى، يومَ زِفافِ صديقِهِ (طنسى)، نَقْلاً(8) للعروسِ آنَ استَوَتْ على سريرِ مُلكِه.
وتُنبئُكَ مَحْدَلَةُ (مرج النهر) الإعجازيَّةُ الوَزْنِ في زِفافِ (حميدِ القوّاس)، الخبرَ اليقين. رَبْعَةٌ(9) خَطْفًا، فَثَمانٍ يُطرِّزُها ويُرَقِّشُها ويوَشِّحُها بالتَّاسِعةِ حُبًّا بالعروسيْن الغالِيَيْن.
* * *
صبيحةَ الخامسِ من شباط 1945 قرَعَ الأبُ نقولا خـــادِمُ الرعيّةِ جــــرسَ كنيســـــــةِ مار الياس بُكرَةً، جَرْيًا على أُسلوبِهِ، وضَرْبًا على قالِبٍ ينتهِجُهُ في طوارئ القرية:
وتطالَتِ النِّسوةُ على الشُّرفاتِ يستَجلِيْنَ مَصاديقَ النَبأ.
(أوجيني) “أم لحاف”(10) كانت السَّبوقَةَ في إشاعةِ الحَدثِ السَّعيدِ، الذي لم تَستَطعْ أنْ تتحمَّلَ عليه. استَبْطَنَتِ البيِّنَةَ وتَظَنَّتْها، فما أخطأتْ فِراسَتُها قطُّ، كأنّها منها على ثَبْتٍ عِيانٍ تناصَرَتْ عليه أدِلَّةُ العقلِ والنّقْلِ، فشمَّرتْ في أزقّةِ القريةِ تَحْسُرُ لِثامَ الشُبُهاتِ وقد استبْصَرَتِ الطريقَ واستَبان:
“فارس بو عيّاض شَلَفَ(11) مروى بنتَ زمرّد”!؟
فاستطارتِ البُشرى استِطارةَ البَرقِ، ولم يَعُدْ لِتوِّهِ البِساطُ مَطْوِيًّا، من دفائِنِ الغَيبِ، مُسدِلاً على ولِيجَتِهِ(12) حِجابَ الكَتْمِ والمغابِن(13) .
* * *
وعُمِّرَتِ الأَفراحُ في دارةِ آلِ غيّاضَ، فالعُنَّابَةُ بالحُجَّتَيْنِ لا تأْتَلي(14) بقلمِها الـمُدَبَّجِ أن تملأَ السَاحَ كُنوزًا فَضَلَتْ كلّ ساحٍ، وبزَّتِ الغُواةَ والمتقدِّمين.
ناهيكَ باللّوْزَةِ الهَدْباءِ أقمارًا بيضاءَ اسمَوْمَتْ على أفنانِها تَنْجُمُ الدُرَّ الكَنِيْنَ من مغاوِصِها.
غَزَلٌ أبيضُ يَنْزَعُ الى ثلجِ صنّينَ، ألْـمَعَ بجناحَيْهِ وخَفَقَ بهما، فالرَّوضُ بمعناهُ الهُوِيّاتي وطنٌ كَوْثريٌّ لِلْمجرَّاتِ ولِلْعصافير.
بنفسي أنتَ يا فارسُ، قالتِ الرّمانةُ بِسُكونِ الطَّرْفِ، وقد أنافَتْ كِيْزانَ أعلامِها تَعاجيبَ ماردةً تُغرِي بالإيلاجِ الى حَرَمِ القصيدةِ العَصماءِ في عُبابِها كمثلِ تنهُّدِ ناياتٍ على بحيرةِ مَرْمَر!
وأترُكُ للزوّارِ المهنِّئينَ أن يَرْوُوا مُشاهَداتِهم عن حَبْرَةِ (ابنِ كحيلان) حِصانِ فارِسَ وهو يَطْفِرُ في صَحْنِ الدّارِ من الفَرَحِ مُرَقِّصًا ذَيلَهُ، مُحتفِرًا الأرضَ بقوائِمِهِ، وقد لَمَعَ في غُرَّتِهِ نورُ البِشْرِ، وتقوَّضَتْ دعائِمُ اصطبارِهِ، وضاقَ عنه طوقُهُ، حتَى كأنّهُ لا يتماسَكُ فيخرُجَ من جِلْدِهِ غِبطَةً وابتِهاجًا.
* * *
قَضِّبْ أغصاني يا الله،
واعقِدْ لي في حاضِرَتكَ جِوارًا،
واجعَلْني تُرسًا من ذهبٍ مُطَرَّقًا، مُعَشَّقًا، مُشرَّبًا في مَملكةِ سُليمانِكَ بِوَجْهِ القُساةِ الظالمين. ولتكن طُغْراءُ(15) السُّلطانِ سِمَتي في الحقِّ ، ممَّن يتجوّزُونَ اقتِسامَ النِّهابِ، مُكِفًّا عن أورامِ الدّنيا، فأَتَحوَّبَ، ما يَنوحُ الحَمامُ، فَعْلةَ الشرِّ والمطاعِن.
ربّي !
نِعْمَ ما رحمتُكُم،
وما أجْمَعَ بيادري للحِصادِ لو تأخُذون بضَعافَتي !
بيروت في 1- 1- 2019
****
1- ينتسب /// 2- يميل وينحرف /// 3- يلوي شِدقَه للتفصّح /// 4- يقلّدهم. يستظلّ بهم /// 5- تشبه /// 6- غصن /// 7- شرف نفسه /// 8- (ج. نُقول) ما يوزّع في اعياد القُرى وسهرياتها /// 9- رَفْعة (في لغة الأجراس) /// 10- لقب من تتدبّر الزيجات في القرى /// 11- خَطَفَ (بلغة العرسان) /// 12- دِخْلَتُه /// 13- مفردها مغبن (بمعنى المطاوي والمكاسر) /// 14- تتورّع /// 15- شارة تُرسم على المناشير والمسكوكات السلطانيّة /// 16- تجنّب