مَوْت حلم!   

      165733    joseph mhanna

في الستينيّاتِ، وُشكانَ(1) ما شَدَّ أمينُ “بُقجةَ” السَفَرِ، وانْسَدَرَ في قَبْسَةِ العَجلانِ يَهتَلِكُ في إبحارِهِ، مُيَمِّمًا شَطْرَ البرازيل، مَحَطَّ خيلِ أنسبائِهِ لأبيهِ، ممّن ضاقَتْ بهم سُبُلُ العيشِ في الوطنِ الأمِّ، فكان لهم تحت كلِّ سماءٍ مَرامٌ قصيٌّ أخَذَ عليهم متوجَّهَه.

الصّاري تئِنُّ تحت وَطْأةِ ريحٍ زَعْزَعٍ(2) نَفَحَتْ قُلوعَ السفينةِ، في دُجُنَّةِ ليالٍ ثلاثينَ عِضٍّ(3)، مَرَسَ حَبْلُ أمواجِها، فَتَعَقَّدَتْ وأعضَلَتْ واستغلَقَ الـمُلْتَمَسُ وعْرَ المُرتقى، وعْثَ الـمُبتغى، قاسى أمينُ فيها نَصَبًا، مُقتَعِدًا ظُهورَ المكارِهِ، وأكتافَ الشّدائد.

سلمى وحدَها مَنْ أُشرِبَ محبَّتَها يافِعًا، وصَغَتْ(4) إليهِ بوُدِّها أيامَ دارُ الشّملِ جامعةً، تجرّعَتْ غُصَصَ اغترابِهِ جَلْدَةً على مَضِّ النوازِل. فأخَذَتْ من حِبْرِها على القلمِ بعدَ تشرذُمِ اللّفيفِ تَباديدَ، وعَجِلتْ بها حُمَّةُ ورَوْعاتُ البُعدِ، وسَطَّرَتْ على وُرَيْقةٍ دَسَّتْها في صدرِها:

لقد تفرّقَ الحَفْلُ أَيدي سَبا، وتقوّضَ المجلِسُ ثُغورًا، وانتثَرَ العِقْدُ شَتاتَ شَتاتَ، وصَدَعَتْنا النَوى، فأَوْسِعْ فِناءَ صدري يا الله، وأضرِبْ على حُرْقتي أطنابَ صَبْري، وَرَيْبَ(5) دَهْري، واجعَلْ غِيابَ أمين هَزْمَةً(6) في صَخْري، فأتماسكَ عمّا فَقَدْتُهُ، فأتَجمَّلَ، وأتأسَّى.

أثِقُ يا خالقي ِأنّ تِلكمُ مشيئتُك!

ومرّتِ الأعوامُ العَشَرَةُ تُخالِبُ أمينًا وتُداوِرُهُ. تُماحِلُهُ، وتُؤاتيْهِ أُخرى، فلا تُعجِزُهُ لُبانَةٌ، ولا تُثَبّطُهُ عُقْلة. إنّ الوفاءَ بما أذْمَمَ لِسلمى ، وواثَقَها لَوَكيدةٌ لا تُخْرَقُ ، ولا تَحَلُّلَ في عَهَد. لقد أَنِسَتْ بناحِيَتِهِ، وَرَكَنتْ الى صِدْقِ طَوِيّتِهِ، فهو ممّنْ لا يُدامِجُ(7) ولا يُحدَجُ بِسُوء.

إلاّ أنّ ما أوْرَثَها حَسرَةً أنّ الأجَلَ قد طالَ، والجراحَ قد أثخَنَتْها فأوْهَنَتْها وأثقلَتْها، ونَفَحَتِ العروقَ دمًا ناقِعًا، وإلحافُ الأهلِ في زواجِها من كريمِ عائلةٍ مَيْسورةٍ لا يرحَمُ ولا يُهادِن.

إنّها لا تَذوقُ لِلدَّعَةِ النّفسِيَّةِ طَعْمًا .فالتَرَهَّبُ أفضلُ الحُلول. وها هي تتحامَلُ ليلاً على نفسها إلى ديرٍ للرّاهباتِ في الجِوارِ، ترسُفُ رَسْفَ الـمُقَيَّدِ، لا تُقِلِّها رِجْلاها، ولا يَطمئِنُّ جَنْبُها إلى مَضجَعْ، فالقلبُ في تباريحِهِ وجَمَامِهِ لا يَقِفُ على ساق.

* * *

وقصدَ أمين الدّيرَ مُتَطرِّحًا شاحِبَ الجسمِ، وانِيَ الحركةِ لا يربَعُ على شيء، يَستَنْشي عَبَثًا نسيمَ تلك التي عَدَتْها عنه العوادي فحجزَتْهُ عن وَجهِهِ، وحَبَسَتْ عِنانَهُ، وأمْسى ليسَ من لَيلِهِ ولا سَمَرِه.

منذئذٍ اعتلَّ مكانًا قَصِيًّا من البلدةِ كارِهًا خُلطَةَ الناسِ، لاوِيًا عنهم عِذاره. ومِنْ قائلٍ ضاق به ذَرْعُهُ، وعَجِزَ عنه وُسْعُهُ، فأسلمَ الرّوحَ في تَتَيُّمِهِ تحت شجرةِ الجميّزِ على مشارِفِ القريةِ حيثما استَوْقدَ الوَمَقُ(8) ضُلوعَهُ في اللُّقيةِ الأولى، واقتُنِصَ بِحبائِلِ فِتْنَةِ سلمى، وسُحِرَ بِفُتورِ أجفانِها، واختُلِبَ بعُذوبَةِ المنطِقِ وَرحيقِ المراشِف!

* * *

كلّما خَلَدْتُ إليكَ يا قلبي، وأُجِدْتُ الى خوابيكَاهتاجَني شوقٌ بارِحٌ وحَنَنْتُ إلى أيّامِ خوالٍ نمَّتْ عليه عَبَراتي، تفضَحُ سِرًّا مُضمَرًا ألِيفَ شجنٍ لَذَعَ شَغافي، فأَهيمُ في كلِّ وادٍ، ولا أعودُ من فَرْطِ صَبْوتي أفيق.

أوَليسَ الحبُّ إكسيرَ النفوسِ وجَواها، تَستَطيْرُنا إليه نَزيَّةٌ وغُلّةٌ من نُزُوعٍ يَعتادُنا إلى ما نَتَعلَّلُ به في مُضطَرَمِ الضُّلوعِ وأُوارِ الصُّدور.

* * *

أيْ قُمْريَّةً في شُبّاكي، ناشَدْتُكِ الله، ألاّ أَسْمَعْتِني أُغرُودة الحبيب؟!

      (بيروت في 17- 12- 2018)

****

1- سريعًا /// 2- شديدة ، قويّة /// 3- شديدة /// 4- مالت /// 5- صروف الدهر /// 6- نُقرة /// 7- لا يُداجي /// 8- الحب.

289b

اترك رد