رسالة اليوم العربي للمسرح ( 10 يناير )
جئت إلى المسرح لأنه كان حلمي، المسرح هو فن الوهم الذي يؤازر الحقيقة ويقف في وجه الأكاذيب، جئت إلى المسرح حين أدركت أن الخيال يستطيع أن يغير الواقع.
حين كان التاريخ دجلاً أردت أن أعتلي الخشبة لأقول الحقيقة. لم يكن المسرح بالنسبة لي قناعة فكرية فقط، بل كان إيماناً يلامس الروح. كنت أحمل جمرة المسرح بغبطةِ وفرحِ من يحمل أغلى “كوهينور” (ماسة) في العالم.
المسرح عندي درب سري مدهش قادني إلى ماهيتي، إلى كينونتي الحقيقية؛ لم أكن أمثل، كلا أبداً؛ كنت أعيش، أعيش أسئلتي، عزلتي، حيرتي، دهشتي، تمردي، ثورتي، عذاباتي، فرحي، إنسانيتي، كنت أنهمر على الخشبة بكل كياني، وكان المسرح هو الخلاص.
دخلت تفاصيل حلمي الذي بدأ في سن السادسة، كان حلمي الوحيد أن أكون ممثلا مسرحياً لا غير. كان المرحوم محمد بوديا ينظر إليّ باندهاش ويقول: “كيف لشاب فنان ومثقف مثلك ألا يدخل معترك السياسة؟!”، كنت أضحك وأجيبه: “لقد كذبت على أبي حين وعدته ـ من أجل أن يتركني في الحضرة المقدسة للمسرح ـ أن أكون سفيراً أو محامياً أو طبيباً، لكنني أبداً لم أعده أن أكون سياسياً.
كنت على الخشبة سفيراً للحلم الإنساني، ومحامياً لكل القضايا العادلة، وطبيباً، يحاول أن يجد دواءً للحماقة البشرية. سأعود إلى بدايات هذا الحلم، إلى بدايات المسرح في الجزائر…
بعد زيارات الفرق المسرحية العربية المتكررة للجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، اكتشفت النخبة الوطنية أن هذا الفن خطير وفعال، يمكنه أن يغيّر ويخلق لدى الجمهور وعياً سياسياً؛ لذا تأسست الفرق المسرحية والجمعيات، وكان هدف هذا التأسيس هو تكريس وعي وطني من أجل تحرير الجزائر من هذه الفرق الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، التي تأسست بتونس، والتي كان يشرف عليها أستاذي المرحوم مصطفى كاتب.
يتحدث الكثير من المثقفين والإعلاميين والسياسيين ضد العنف اللفظي والبدني الممارَس على بعض الفئات والأفراد، لكنهم يتناسون أو يتجاهلون العنف الذي مورس ويمارَس منذ زمن طويل على الفنان المسرحي، والذي ـ للأسف الشديد ـ لم يصنَّف بعد كمبدع للقيم الجمالية وإنما استُهجِنَ فنُّه بتصنيفه كمهرج – مضحك – عجاجبي. هذا التصنيف ظلّ مكرساً في اللاوعي الجمعي إلى يومنا هذا، ولهذا ظل الفنان المسرحي في أدني المراتب الاجتماعية.
تنازلت عن لقبي، واخترت اسما مستعاراً سيد أحمد أقومي؛ من أجل المسرح والمسرح فقط، فالمسرح كينونتي وهويتي التي أعتز بها حيثما أكون. وحتى حين أكون في المنفى فإن لي في كل بنايةِ مسرحٍ وطناً، وفي كل خشبة أقف عليها حبلاً سرياً يجمعني بأخي الإنسان.
شكراً لأنكم جعلتموني أستحضر في هذه اللحظة، أصدقائي وزملائي الذين رحلوا، وصنعوا من مسيرتهم مناراتٍ نهتدي بها كلما حاصرتنا الظلمات والعواصف. شكراً لسموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لدعمه المستمر للمسرح، ذلك لأنه يدرك أن المسرح يبني ما يعجز عنه السياسيون.
***
(*) في اليوم العربي للمسرح ( 10 يناير) المتزامن مع مهرجان المسرح العربي في القاهرة (9-19 يناير) اختارت الهيئة العربية للمسرح الممثل الجزائري أحمد أقومي، لتوجيه رسالة اليوم العربي للمسرح.