لا أدري كيف أكتب عن محمود درويش في الذكرى العاشرة لرحيله، وهو الغائب الحاضر دوماً في أفق المستقبل الشعري، كما هو حاضر بيننا وممتد في الماضي. كأن الوقت لم يمرّ بعد. إلا أنه كلما مرّ الزمن صار شعره أكثر توهّجاً وبهاء، وأكثر حضوراً في مكامن الشعر الإنساني الكوني
اليوم نجد أن شعر محمود درويش أكثر عبوراً للمسافات الجغرافية ما يعني أن الغياب لم ينهي صدى محمود درويش في وجدان الناس لأن أشعاره حمته من النّسيان كما حمت شعراء إنسانيين قبله من عصور وأجيال مختلفة. ولذلك يصعب الحديث على شاعر من وزن محمود درويش. فشعره يكبر المتلقي بزمن بعيد. إنه صوت إنساني مفتوح على الأفق الكوني، متجاوزاً الأزمنة والأمكنة، ومتجاوزاً لثقافة الاستهلاك، لأنه نموذج شعري متفرّد نجح في أن يبني كوناً شعرياً بلُغته ومهاراته التّخييلية. فكيف نكتب عن شعر يسبقنا بعشرات السنين وبالتالي هل نكتب عن عدد الترجمات التي حظي بها شعره أم عن عدد الدراسات الهائلة التي أُنجزت حول تجربته الشعرية، أم عن زمرة الفنانين الكبار الذين اهتمّوا بشعره، على مستوى الموسيقى والتشكيل والسينما والمسرح والسينوغرافيا وغيرها في المعاهد والجامعات والمتاحف والمسارح العالمية، وذلك في كل دول العالم العربي وغير العربي. ولذلك سنحاول إرفاق هذه الدراسة ببعض الصور واللوحات التشكيلية. فشعر محمود درويش منبع الفن في زمننا الراهن. وهي سمة العديد من كبار شعراء الحداثة العربية.
أتذكّر أنه بعد رحيل محمود درويش بقي شعره لمدة طويلة وحده ينام على وسادتي. كنتُ أفكّر دوماً كيف اكتسب هذه الجرأة في مقاومة عنف العالم وقوة التعبير عن الوجع الإنساني. وكنت أدرك طبعاً أن الشعراء الإنسانيين لا يموتون، بل يصيرون أكثر حضوراً كلما مرّ الزمن. واليوم ضاعف غيابه هذا الحضور الشعري الوازن في كل العالم العربي وغير العربي. فشعره يسير نحو رؤية مستقبلية كونية مستوعباً معنى الكون. فالشعر عنده هو الحياة، وهو الذي يشكّل قيمة الإنسان في هذا العالم. فبقي من الأصوات الإنسانية ذات الأفق الكوني الذي لا تدركه إلا الأصوات الكبيرة. إنه صوت الشاعر الإنسان المنفتح على كل ثقافات العالم الإفريقية والأوروبية والآسيوية والأمريكية. ما يعني أن فقده في عز عطائه كان فعلاً خسارة كونية لكل العالم. لكن هل باستطاعة المتلقّي أن يساير جمالية قصيدة محمود درويش. لأن الكثير من أسرار القصيدة تحيا فقط في أعماق الشعراء دون أن يصل إليه المتلقي.
ويحقّ لنا اليوم أن نستعرض من خلال أعماله الشعرية أسئلة الشعر في زمننا وتحوّلات القصيدة العربية ورهاناتها وانفتاحها على الفنون وعلى شعريات العالم. فقصائده إعادة تفعيل دائم لمعنى الحياة والوجود. كان محمود درويش يعرف بأنه سيرحل يوماً ما، إلا أنه لا يريد لقصيدته أن تنتهي. وقد حقّقت أشعاره دهشة في أكبر عدد من المتلقّين لعمقها الجمالي الإنساني. فما زلنا لحد الآن نشتاق إلى طَعم خبز أمه، وإلى زيتون كرمله، وإلى كمنجاته وإلى يافا ورام الله والقدس وحيفا، وعصافير الجليل، وشجرة الخروب، وشجرة البرتقال، ومحطاته، وإلى كل أمكنته المحبوبة حتى قبل أن نعرف موقعها على الخريطة. أماكن جعلها الشاعر مسكنا لقصيدته، مسكناً قريباً من محبيه وعشاق شعره في زمن عربي مهزوم. لكن رغم بؤس الواقع فمحمود درويش كان يرى أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة
الفنانة منى السعودي شعر محمود درويش
إن شعر محمود درويش أيقونة الشعر الإنساني، وهو رأي أجمع عليه العديد من كبار النقاد والمترجمين لشعر محمود درويش كالصيني “بي ضاو”، والألماني “شتيفان فايدنر”، والمستشرقة الألمانية “آنا ماري شمل”، والصيني “شيو تساي” وغيرهم. لأنه يمتاز بقوة لغته الشعرية التي بها يقدم الوجود في أجمل حُلّة. فالشعر كما يقول بول فاليري “اكتشاف للغة”. وكان درويش يحتفي باللغة، وبها خلق لمعجمه الشعري فضاء مميّزاً، قادراً على سبر أغوار الوجود.
كان بول فاليري يرى بأن المعنى الذي خلعه على شعره، لا ينطبق إلا عليه. ومحمود درويش تجربة استثنائية في الشعر العربي، حتى أن القارئ للشعر يعرف قصيدته دون أن تحمل اسمه بنبرتها ولغتها وعمقها التخييلي التصويري الفني. فمملكة الخيال عنده مشرعة على الأساطير والخرافة والدين والتصوّف والفلسفة والفن والرسم وغيرها، ومرتبطة بثقافات مختلفة وعوالم جديدة. فشعره يرتقي بالمتلقي إلى أعالي سماء الإبداع لتبدو الحياة رغم صعوبتها دائماً جميلة. فالشعراء أنبياء الإنسانية بعيداً عن الدين قريباً من العمق الروحي الإنساني. لذلك نجد في شعره أجوبة على الكثير من الأسئلة الكونية في حوار مع شعراء عاشوا قبله بآلاف السنين، وشعراء من جنسيات مختلفة سواء من العرب أو الأوروبيين أو الصينيين أو الأمريكيين أو غيرهم.
فلم يكن في حياته باكياً شاكياً. ولأجل ذلك لم يكتب سيرته الذاتية كما جاء في حوار له مع عبده وازن، وفضّل أن يكتبها شعراً من خلال بعض أعماله الشعرية ليختلط الألم بالفرح، ويفتح مجالاً واسعاً للأمل الذي به نحيا ونصارع من أجل العيش بحرّية وكرامة. لذلك كتب محمود درويش سيرته شعراً في العديد من أعماله الشعرية وكتبه النثرية ك”يوميات الحزن العادي” و”ذاكرة للنسيان” و”لماذا تركت الحصان وحيداً” ولاسيما في “الجدارية” التي يحكي فيها تجربته مع الموت ببُعد صوفي ميتافيزيقي. وقد صدقت نبوءة محمود درويش. فالموت لم يمهله حتى إعداد حقيبته. ألم يقل “أيها الموت انتظر! حتى أعدّ حقيبتي”. كان يدرك في أثر الفراشة أنه يقضي إجازته القصيرة في الحياة. وكان الموت كلما اقترب منه اقترب هو من الأبدية. وبالرغم من جبروت الموت، كان محمود درويش يطلب منه في جداريته الشهيرة أن ينتظره خارج الأرض. وظلّ في هذه الجدارية لاعب نرد مميّز لا يستقرّ على حالة ولا على رقم. يقول: أيها الموت انتظرني خارج الأرض/ انتظرني في بلادك، ريثما أنهي/ حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي.
والجميل في شعر محمود درويش هو الارتباط الضمني لحقيقة الموت بسؤال الحياة والوجود. الحياة التي يرى أنها تستحقّ أن تُعاش. فكان في هذه الجدارية فعلاً حوارَ الحالمين. إنه سماوي وطائر ورسول وشاعر. يقول: سأصير يوماً طائراً، وأسل من عدمي/ وجودي . كلما احترق الجناحان/ اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من/ الرماد . أنا حوار الحالمين ./ (…)/ سأصير يوماً شاعراً ،/ والماء رهن بصيرتي . لغتي مجاز/ للمجاز، فلا أقول ولا أشير/ إلى مكان . فالمكان خطيئتي وذريعتي .
ويحضرني استدعاء محمود درويش في جداريته الرائعة لأسطورة جلجامش رؤية حضارية وحواراً عميقاً وأسئلة وجودية حول كنه الحياة والموت ومصير الإنسان بعد أن اكتشف الشاعر بأن الحياة لا تستحق أكثر من أن تُعاش، خاصّة وأن مرضه في تلك المرحلة جعله في مواجهة تجربة الموت القاسية في تمازج جميل بين الفردية الإنسانية والبُعد الإنساني الشّمولي حيث فضاء الموت والأسطورة. يقول محمود درويش: نام أَنكيدو ولم ينهض. جناحي نام/ ملتفّاً بحفنة ريشه الطينيِّ/ (…)/ والقلب مهجور/ كبئر جفّ فيها الماء، فاتّسع الصّدى/ الوحشيُّ: أنكيدو ! خيالي لم يعد/ يكفي لأكمّلَ رحلتي. لابدّ لي من/ قوّة ليكون حلمي واقعياً. هات/ أسلحتي ألمّعها بملح الدمع. هات/ الدمع، أنكيدو، ليبكي الميت فينا/ الحيّ. ما أنا؟ من ينام الآن/ أنكيدو؟ أنا أم أنت؟ آلهتي/ كقبض الريح. فانهض بي بكامل/ طيشك البشريّ، واحلم بالمساواة/ القليلة بين آلهة السماء وبيننا./ نحن الذين نعمّر الأرضَ الجميلةَ بين/ دجلةَ والفرات ونحفظ الأسماء.
فحواره مع أنكيدو هو حوار بين الذّاتي والإنساني الكوني ما جعل جمالية خطاب الموت في قصيدة الجدارية تنفتح على معالم أسرار التخييل الجمالي عند الشاعر في مواجهة المصير المؤلم للذات بالخلود الشعري. وهو خلود ثقافي حضاري كان يسعى إليه جلجامش منذ آلاف السنين، والذي ارتبط ذكره بقصّة بداية أعظم حضارة إنسانية في أرض الرافدين. وهي أيضاً تأمّل في طبيعة السلوك الإنساني ونموذج فني فكري إبداعي للقيَم النبيلة للحضارة الإنسانية. إذا كانت الحضارة عند وليام هاولز هي كل ما يساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته. فملحمة جلجامش أجمل تجسيد لأنسنة الإنسان وإحساسه بعمق الوجود وبالمحبة والصداقة والوفاء. وبذلك يمكن أن نقول بأن الملحمة تمثّل التفكير المتطوّر والمتحضّر لإنسان ما قبل الميلاد. لذلك شكّلت إرثاً فكرياً إنسانياً حاضراً بقوّة في كل الثقافات الإنسانية. ما جعلها تحتفظ ببريقها الأدبي والفكري والفني.
ونجد أن سعي الإنسان إلى الخلود كفكرة وجودية كونية تخص كل البشر في الماضي والحاضر. لكن ما يميّز رحلة جلجامش في البحث عن سر الخلود هو إدراكه في أن قيمة الحياة وحكمتها وسرّها يكمن في الإنسان ذاته وفي أعماله الجادّة والصادقة التي تؤهّله للخلود. وهذه الأعمال هي التي تبقى شاهدة على الازدهار الحضاري للشعوب والأمم.
كانت لمحمود درويش مكانة خاصة في قلبه لمعظم العواصم العربية ومنها الرباط. ففي مسرح محمد الخامس بالرباط كانت الشرطة أحياناً تتدخّل لتفريق مئات الأشخاص الذين لم يتمكنوا من دخول مسرح محمد الخامس الذي يغصّ بعشاق محمود درويش. وقد عبّر عن هذه العلاقة التي تربطه بالمغرب وبالرباط وبمسرح محمد الخامس في قصيدته “في الرباط” التي يقول فيها:
مدينة الرباط مكان شخصي هو مسرح محمد الخامس./ هناك تمتلئ نفسي بما ينقصها/ من ضفاف. ما أَعرفه عن نفسي- و هو قليلٌ- يكفي/ لأن أتوحَّد مع هذا المعبد المفتوح لمفاجآت/ الإلهام. كأني هناك لا أَقرأ و لا أُنشد،/ بل أَرتجل ما يملي عليَّ الصمتُ و الضوء الخافت/ و العيونُ التي ترسل الإشارات، فأصوغها في/ عبارات و أعيدها إلى أَيدٍ تمسك بها/ كما لو كانت مادة شفَّافة، مصنوعةً من/ هواء. كأني أقرأ شعر غيري، فأطرب/ لأنه شعر غيري. و أنا لا أنا إلا بقدر/ ما يكون الشعر هو الشاعر. لكني أسترق/ النظر إلى فتاة تضحك و تبكي في ركن / القصيدة القصيّ، فأبكي و أَضحك لها / متواطأ معها على فتح أبواب المسرح/ للتأويل. و للمغاربة أن يقولوا: نحن/ مَنْ أوحى إليه!
محمود درويش حالة شعرية استثنائية ومتفرّدة في الشعر العربي. فهو أكبر من أن نحصره في قضية أو تاريخ أو مكان، إنه شاعر الإنسانية. وشعره قابل لأن يُقرأ في أمكنة وأزمنة عديدة. عرف محمود درويش كيف يصنع من الأشياء الصغيرة عوالم وقارات، وكيف يبني فلسفته من الأشياء البسيطة التي تحيط به. في ذاكرة للنسيان جعل من القهوة حضارة وتاريخاً وتراثاً، وجعل منها عشقاً ومحبة وعطاء حينما ترتبط بالأم وبالمرأة. ولقهوة محمود قدسية خاصة في شعره. فهي عنده لون الأرض، ورائحة الأرض، ومفتاح النهار وأوله، وهي ذكريات. ورائحة القهوة تصنع تماسكه وانضباطه. فأيدي لا تُجيد صناعة القهوة، لن تُجيد كتابة قصيدة. فالقهوة كالحب قليلٌ منه لا يَروي وكثيرٌ منه لا يُشبع. هي ذي القهوة بعبارات محمود في ذاكرة للنسيان. مرة قال لي واصف منصور رحمه الله، حينما كان بسفارة فلسطين بالرباط، إن سرّ قهوة محمود درويش في يده. يومها لم أستوعب مغزى كلامه. واعتبرت القهوة من طقوس الكتابة عند محمود. كنت وقتها طالبة أحضّر إجازتي عن شعر محمود درويش. أدركت فيما بعد أنها أكبر من ذلك بكثير. إنها فلسفة حياة. فاليد التي تكتب هي اليد التي تصنع القهوة. إنها رفيقته الروحية المرتبطة على الدوام بأبعاد وجودية، وسر من أسرار قصيدته اللانهائية. هذه القهوة التي تأتي عند محمود درويش مع بزوغ الفجر وبها يستقبل النهار وبها تبدأ مغامرة الكتابة. وقد تقول اللوحة التشكيلية ما يعجز عن قوله اللسان.
القهوة لا تشرب على عجل هي كل الوقت تحتسى على مهل هي تأمل وتغلغل في النفس الذكريات (محمود درويش)
لوحات العويّد وأحمد وليدة تناغم بين الطبيعة والموسيقى