الحالة السياسية الاستثنائية المتشظِّية والكثيرة التعقيدات التي يعيشها لبنان ، منذ سبعة أشهرٍ ، مع تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة ، والتي ْتركت نُدُوبَها على نقاوة الصورة السياسية للبلد ، تؤكٍّدُ تكراراً أنّ نظرية (التوافقية السياسية)، التي باتَتْ علامةً مُسجَّلَّةً للمرحلة الراهنة وطبعتها بطابَعِ المراوحة ، تشكِّلُ العائِقَ الرئيس الذي يحول ُ دون إعتماد مبدأ (الديمقراطيَّة الكلاسيكيّة ) ، من حيثُ منطقُ الأكثرية والأقليَّة ( كَفَّا ميزانِ ) العدالة المُجتمعيّة ، في بلد التوازنات.
حتى ولَوْ كانت هذه الديمقراطية حاملةً في ثناياها نوْعاً من (الديكتاتورية المغلّفة)، مع بروز رابح ٍ وخاسر ، ومؤيّدٍ و معارض ، في مجتمعٍ مُركًبٍ ، ركيزُته ، التعايشُ السياسيُّ والعَيْشُ المجتمعيُّ والتآخي الدينيُّ ، بما يَشي بوضوح أنَّ اعتماد ( التوافقية) كَصيغةٍ رضائيَّةٍ ، هي مهمَّةّ وطنية لا يمكن ُ حمايتُها ، وإعتبارُها أيقونةً نموذجاً لروحٍ للنظام الطائفيّ الهجين ، من دون تحصينها بنصوصٍ ومواثيق ، تمنعُ إساءةَ تفسيرِ معانيها قَصْداً و تشويهَ مقاصدها عرضاً ، بما يتطلّبُ تصويبَ أهدافها ، تعزيزاً لفكرة (توافق النوايا)،لا (توافقٕ المصالح) الظرفية، وتركها مُعرَّضَةً لأيِّ نوعٌ من الأخطار التي تنتجُ عن سلوكاتِ بعض المُكَوِّنات ، لأيًِ سببٌ أوْ تبرير ، وبما يمنع ُ الطُفَيليّينَ و قنّاصي الأزمات من إستغلال التبايناتِ السياسيًةِ المشروعةِ ، ويعيدُ بناء الثقة بين المواطنين والنظام السياسي الذي تتعاظم الإنتقادات حوله، ويجعلهم يشعرونَ فعلاً أنهم شركاءُ لا رعايا ، وبما يفرض عليهم الإضطلاع بمهام ٍ وطنية وإلتزاماتٍ مجتمعيةً، ويعزّزُ دورهم كمواطنين كاملي المواطنة ، بكلِّ موجبات المواطنة ومفاعيلها، و بما يُحَمِّلهم مسؤوليةَ أنْ يكونوا في قلب التفاعل السياسي ، لا أن يشعرَ بعضهم ، وإنْ بالغلط ، أنّه على هامش الوطن ، أو أن يعتبر ، عن سؤِ تقديرٍ، أنه لا يدخل في قائمة إهتماماتِ الزعماء والمسؤولين.!
مناسبةُ هذا الكلام والمُحَرِّضُ على مضامينه ، هي انتقالُ نِسبٍ عاليةٍ من اللبنانيين من حالة تقويم الوضع السياسي ونقده ، إلى وَضعِيَّة التوْصيفِ الإستهزائيِّ والكاريكاتوريِّ للأمور ، وإضمارِ ما لا يتناسبُ معَ مستوى تفكير اللبنانيين وطبيعة علاقتهم التفاعلية مع الوطن ،كخيارٍ نهائيّ وِفْقَ مَقولة سماحة الإمام موسى الصدر ، التي تؤكِّدُ على ” نهائيّةِ لبنان وطنٍاً لكلّ أبنائه ” ،وقد أصبح هذا التعريف في صلب روحية الدستور اللبناني ، نَظراً لأهميّة ( معنى لبنان ) كوطنٍ رساليٍّ ونموذَجِيٍّ ، وفق توصيف قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وهذه حالَةٌ حضاريّة ومسووليّةٌ إنسانيّةٌ يجبُ الحفاظ عليها و تحصينُ وظيفة لبنان ودوره والتعامل معه كحالةٍ مُسْتدامةٍ ، لا كنظامٍ مَوسَميِّ ، و العمل تشريعيَّاً بإنفتاحٍ ودرايةٍ وحكمةٍ ، بما يؤثِرُ إيجاباً على منطق (العدالة الدستورية ) التي قَعَّدَها #الرئيسنبيهبرّي نَمَطاً جديداً في الحياة السياسية اللبنانية ، في ثنائية مسؤولياته الدستورية ، كرئيسٍ للمجلس النيابي ، وزعيم وطني،كرئيس ( لحركة أمل ) وزعيم لبناني ،يعرفُ كلَّ لبنان ، ويُقَدِّرُ دورَهُ كلُّ اللبنانيين ، حيثُ ان كثيرين من المخَضرمينَ في ( اللبْننَةِ السياسيًةِ ) يرون َ فيه صورةَ (دولة الوطن) ، من حيثُ الحضور والذكاء وقوًة الشخصية و(الطَبْعُ اللبناني) المُحَبَّب على قلوب وعقول التوَّاقين لزمنِ الإحترافية السياسية الراقية و (الكُبَرْلِيٌة)..
وهذا ما جعلَ الناسَ يرَونَ فيه أكثرَ من رئيسٍ للمجلس النيابي، فَيُرَقُّونَه من رتبةِ ( زعيمٍ وَسَطيً) مقبول ٍ من كل مـكوِّناتِ الوطن ، الى مَرْتبةِ ( زعيم مٍحْوَرِيٍّ) يحتاجه الوطن..وكثيرونَ يرونَ فيه علاماتِ الرئيس #كميل_شمعون الذي طبعَ مرحلتهُ السياسية بِسِماتِ المهابةِ الفارضةِ إحترامها على المجتمع اللبناني بكلّ طوائفه وأحزابه وتوَجُّهاتهِ السياسية وإنشغالاته المعيشية وقَدَره المصيري….
ولعلّ طروحات الرئيس بري في تحديث النظام، و كلامِه المركَّزِ حول مَنطقِ (الدولة المدنية ) الضامنة للحقوق ، والحريصة على مبادئ المساواة والعدالة وتطبيق الدستور بما يَكْفَلُ الإستقرار الدستوري ويحمي الحياة السياسية ويزيد من زَخْمها الإيجابي في النهوضِ بالمؤسساتِ والتفرُّغِ للإزدهار والإنماء والقيامِ بما يُمليهِ الواجب السياسي في حماية الدستور وتعزيز عمل المؤسسات ، بعيداً عن استغلال الظروف والإختباءِ وراءَ إشكاليَّةِ المصطلحات الظاهرة في النَّص وتلكَ المُخْتَبِئةِ في ( اللَّا مُقال ) ، او التي يعملُ بعضُ لتظهيرها وإعطائها تفسيراتٍ غَبَّ الطلب. وهذه من تقنياتِ الممارسة السياسية في زمن الأزمات التي تتوالى، والدائمة الحضور عندَ تَشَكُّلِ أيِّ خلاف أو تباعدٍ في وُجُهاتِ النظر.
ومن مفاعيل تناسل الأزمات ، و تكاثرها وانعكاسات محاولة استثمارها سياسياً، هي أن المواطنين بدأوا يشعرون بصمت ، ويعارضونَ ( على السَكْت ) كلّ ما و منْ لا يقيمُ لهم وَزناً ولا يحسبون لهم حساباً في لائحة إهتماماتهم. وهذه من الحالات النادرة في الحياة السياسية اللبنانية.
فأَيُّ إستراتيجيّةٍ يجبُ أوْ يُمكِنُ إعتمادُها في هذا الوضع غير المُسْتَقِرِّ دستورياً ، حيثُ الإحتماءُ بالديمقراطية والإختباءُ خلفَ بعضِ الغموضات،؟ وكيفَ العملُ لإعادة بناء جسور الثقة بين النظام والشعب ؟ وبينَ فَهْمِ النصوص الدستورية وتِقَنِيَّةِ تفسيرها السليم…؟ وكيفَ العملُ لإشعار المواطنين أنهم معنيّونَ بوطنهم ، وأن وطنهم معنيٌ بهم بدون مٍنَّة ؟
إنها أسئلةٌ حادَّةٌ تَنْطَرِحُ اليومَ بقوةٍ في قلوب الناس وأذهانهم فقط ، لأن أَلسِنتَهم مشغولة ٌبصناعةِ شفوِيًاتٍ ، وإشتقاق تعابيرَ يتلَهَوْنَ بها في أوقات فراغاتهم الكثيرة ، مُستعيضين بالنقد اللًفظيً عن خطر الاعتراض والنزول إلى الشارع ، لأنهم فقدوا الثقة بالشارع ايضا ، عندما إنحرفَ هذا (المنبرُ الشعبيُّ ) عن اغراضِه وفقدَ مُقوِّماتِ الثقة التي بنى عليها ثقافته وسلوكه الإعتراضي الحضاري والنبيل، بسببِ سوءِ إستخدامِ هذا الحقِّ الديمقراطي وتوظيفه لغيرِ الاهداف المطلبيّة المُحِقَّةِ التي وُضِعَ من أجْلِها..!
وفي قراءة رصْدِيّةٍ تحليليّةٍ لواقع الحال السياسي في لبنان ، بعد التمادي في استنساخ الأزمات ، والإيغالِ بإختراع مشاريع حلولٍ افتراضِيّةٍ لها ، موضوعة على مقاسات أحلام البعض ، يظهر بوضوح أن (التركيبية السياسية التوافقية) كنظام مرْحَليٍّ ضابط لمسار البلد ، بات الناس ينظرون إليها بريْبَةٍ وخوف، لأنهم رأوا فيها (إقطاعاتٍ ) جديدة، بعيدة عنهم ، وهم غرباء عنها !
وإذْ المفاجآت تكبر وتتعدد ، عندما يكتشف الناس ، وفي أقل من سنة على انتخاب مجلس نوّابٍ جديد ، أنَّ ألآمالَ و المُحَصّلات لم تكنْ على قَدْرِ التوقعات والإنتظارات، فيقعون من جديدٍ في دوّامة اليأسِ الصامت و اليأس القاتل. وأكثر ُ ما يتبدّى هذا اليأس عند تضارب مصالح بعض الفرقاء التوافُقِييّن في سُؤِ فَهْمِهم أو تفْسيرِهم للمواد دستورية ، فيعلو الصَخْبُ السياسي ،و تتضارب الإرْتِجالاتٰ وتزيدُ حِدَّةُ المزايدات… ويأتي دورُ ( مطرقة التشريع ) لتَضْبَطَ الإيقاعَ وتُصَوِّبَ المسارَ وتقولَ الكلمة الفصل والرأي الحَسْم ، فيعودُ الهدوءُ الجَدليُ ، بانتظارِ جَوْلةٍ جديدةٍ من المبارزات في ميدان التشريع خاضعة لمبدأ العرض والطلب وتَحَيُّنِ الفُرَص، التي باتت من سلوكات الشطارة السياسية بالمفهوم اللبناني الغلط..!
وعند كلّ َأزمةٍ يشْعرُ اللبنانيون، القادرون على الشعور، أن الاختلال في فَهْمِ بعض المواد الدستورية ، يتطلّبُ بقوَّةٍ تشغيل (مطرقَةِ ) الرئيس برّي ، الضابطة للتفسيرات والشارحة للمصطلحات … ذلك أنه أتقَنَ فنَّ مَسكِ مطرقة التشريع بيُسْراه ، و حَمْلَ ميزانِ العدالة الدستورية بِيُمْناه…حتى ولَوْ كان ميزانُ العدالةِ عندنا بِكُفوفٍ كثيرة..!
سِرُّهُ ، نبيه برّي أنه يعرفُ كيفَ يضبَطُ إِبْرَةَ ميزانِ العدالة و متى يُشَغِّلَ المطرقة ويُتْقِنُ حَمْلَ الميزان ويحرسَ الدستور ويحمي حريَّةَ التَشْريع..!
فَهل تشكِّلُ طروحات دولة الرئيس نبيه برّي ، وإصراره على تطبيق الدستور بروحيّته ، المدخلَ الصحّ ، الذي يجبُ أن تَلتقي حَوْله كلَّ الجماعاتِ اللبنانية للخروج من المآاذقِ التي تصطنعُها ، والتي كثيراً ما يَعْلَقُ ناسِجو شباكها العنكوبَتِيَّة في تشابكاتِ خيوطها القاتلة..!!