“أنا صرت مِلْك الوطن
مَجدي الوحيد إني فوت بزاكرِةْ العصر”
من كم يوم، رحل الشاعر والثائر موريس عواد عن هالدني، بعد 85 سنة قضاها يحفر بقلمو ملاحم حب وثورة ووجع وفكر ووطن وحلم وإيمان وقهر ونقد. والصفحات اللي دلق حبرو عليها مش صفحات حياتو هوي بس، هيي صفحات حياتنا وحياة الوطن مبارح واليوم وبكرا.
لقيت مش بس من واجبي إكتب عنّو، لكن من قلبي وفكري كمان، وفاءً لسنين من المعرفة والصداقة والشغل اللي جمعنا، وعارفة إني ما رح نافس أدبا كبار كتبوا عنو دراسات. كتابتي عنو وجدانية مش أدبية ولا علمية. وأكيد ما رح إقدر إكتب عنو إلا بـ”اللغة اللبنانية”، مش بالفصحى (التي أكتب بها الشعر وأنشره). حاسّي إنو كان زعل مني لو كتبت عنو بالفصحى.
لما سمعت بخبر رحيلو، فتشت عن كتبو اللي عندي ياها ولقيت 18 من 25 كتاب بعرف عندي ياهن، بينما فيه بسجل موريس عواد شي 60 كتاب، ما عدا اللي ناطرين دورن ليوصلو عالمطبعة.
واندهشت دهشة كبيرة لما فتحت أول كتاب من كتب موريس اللي لملمتها من مكتبتي، لأني وقعت ع وصيتو!!! وصيتو عن اللي بدو ياه ينعمل بدفنو لما يموت. سكّرت الكتاب فوراً، ورجفت من خوف هجم عليّي. كأنو موريس عم يوجه نداء من العالم الأبدي. عاش مكسور الخاطر من كل الغلط المنتشر والمسيطر عالناس والوطن، ومات مقهور ع كل الأحلام اللي حِلِما والصرخات اللي صرخا، وما تحقق شي ولا تصحّح شي ولا تغيّـر حال الناس، وكرمالو الوطن عم يرجع لورا.
مش بس وصيتو عن دفنو طلعت بوِجّي. ما رح تصدّقوا إذا خبرتكن إنو تالت كتاب فتحتو لموريس بعد موتو وأنا وعم إكتب هالمقال (تاني كتاب كان الإنجيل اللي ترجمو للغا اللبنانيي)، تالت كتاب بفتحو من دون ما إنتبه كان هوي أول كتاب فتحتو. طلعِت بوِجّي وصية تانية كتبها، وهيي وصيتو عن اللي بيتمنّـى ينعمل عالأربعين، بعد موتو! مش معقول! أنا فعلاً مدهوشة ومش مصدقة اللي عم يصير. مضطرة إعتقد إنو موريس عم يبعتلنا رسايل من هونيك، مع إني ما عدت شفتو من أكتر من 15 سني.
كتب بالوصية إنو:
بدو دفنو يكون بسيط متل حياتو
وما بدو حدا يجي ع دفنو من اللي بيكونو “شوفوني أنا جيت”
وبدو إنو يقروا من الإنجيل باللغا اللبنانيي (هوي لَبْنَن الإنجيل)
ويقروا مِن كتبو “إجت الساعة يا بـيـي” و”وينك تعا” و”مبارح كنا ولاد” و”كان عمري سبعتعش”
ويدق جرس الكنسية حزن ع عدد السنين اللي عاشا
وقال: ما تنعو حدا، وبيجي اللي بيجي
وقال: أنا صرت مِلْك الوطن
وقال إنو بدو كتبو تنباع والناس بالدفن يشتروها إلن ولولادن وقرايبن، بدل الأكاليل
وقال: أوعا حدا من نواب الدفن والجِتَت يجي بالغلط، ادَّعوا إنن بيمَسّْلوني أنا وطيِّب مش رح خّلِّيُن يكزبو ع التابوت
وكتب كتير إشيا غير اللي ذكرتن.
وصية، بالحقيقة، صعبة كتير. موريس علّا السقف كتير، علّاه ع مستوى شِعرو ومواضيع شِعرو، ع مستوى صِدقو مع ذاتو وقرّاءو، صِدقو الثابت اللي ما تزعزع طول عمرو وكلّفو كتير، ع مستوى فكرو وثقافتو والرؤيا اللي كان مشدود إلها، ع مستوى حبو للشِعر ولبنان وغِيرتو ع تراثو ومستقبلو، ع مستوى تضحياتو وشقاه بالحياة وبالكتابة، ع مستوى معاناتو من الفقر وظلم الحياة، ع مستوى ثورتو عالكذب والسرقة والخيانة والظلم والجبن والكنفشي وموت الضمير، ع مستوى “آخو” ع حالو وحال كل الموجوعين والفقرا والمهجرين والمخطوفين والشهدا وأهل الشهدا والغربا بالوطن ويتامى الحرب، وغيرها وغيرها من القِيَم اللي تمسَّك فيها موريس من دون تراجع.
من شان هيك ما بينلاموا ولادو، ملكار وأدون، اللي عملوا جهد كبير بكل حب ومسؤولية حتى ينفذولو وصيتو. ما يبنلاموا إذا نفذوا جزء منها. بالعكس، بيتقدّروا عالجزء اللي نفذوه بكل جرأة، بيتقدَّروا لأن موريس حمّلهن مسؤولية كبيرة، بمحيط مجتمعي ورسمي ما بيساعد، ومش بس ما بيساعد، بيحطِّم وبيشوِّه وبيسفِّه وبييئِّس. وتَركلُن إرث عظيم ما بتقدر عليه مؤسسات ثقافية ضخمة.
بنظري مش مهمة تفاصيل الدفن، ومين إجا ومين ما إجا، ولا الوسام اللي انرفض تنفيذاً لوصيتو، هوي اللي قال بوصيتو: “مَجدي الوحيد إني فوت بزاكرة العصر وإنو يجي يوم والشعب ينتِلي ويطوف علَيُن (السياسيين اللي حكمو) ويجرُّن ع ساحة العدل، كلُّن، من بَيّاتن اللي صاروا تحت الأرض، لولادن …” المهم إذن هي الأفعال اللي تحافظ ع الإرث اللي تركو موريس وتنشرو وترسّخو بالذاكرة من جيل لجيل وبالتراث باعتمادو بمجامع العلم والدراسات.
أما وصيتو ليوم ذكرى الأربعين، بيتوقع فيها إنها تكون مهرجان مش جنّاز، وإنو تكون تشكَّلِت لجنة بهالخصوص تحضِّر برنامج الذكرى، ويجوا ألوف “يحتفلو بالشِعر والشاعر، اللي كرّس حياتو كرمال قصتُن… وأوعا يجوا… الطواويس”. وتخايل إنو تنعرض كتبو وينباع منها ألوف النسخ، حتى اللي اشتروا يقولوا لولادُن “أنا كنت يومتا هونيك”. وبدو تعلن اللجنة عن تأسيس جايزة، تنمنح لكل مين بيكتب أو بيعمل تحف لبنانية: شعر، قصة، مرسح، نقد، تاريخ، لاهوت، فلسفي، علم، تربية، كتب مدرسية….وإنو كل المال اللي يبنجمع من بيع كتبو من يوم الدفن ليوم الأربعين يتكرس للجايزة، وكل سني ينشال مبلغ من بيع كتبو لتمويلها.
وبوصيتو للأربعين بيحلم كمان إنو شي رهبنة تمنح أرض يتعمّر عليها Pantheon ينعرض فيه تراث لبنان “وشو فيه أروع من إنو ولاد ولادنا يشوفو (بالبانتيون) كل عباقرة لبنان اللي تركو خلف مِنُن تُراس كبير، ويكمّلو المغامرا…”
وبيقول كمان لولادو (ملكار وأدون): “رح يضل يلتقا ناس قلبن كبير يساهمو معكن ويساعدوكن… متل ما رح يلتقا ناس تفور براسن الزغير رغوة الحسد، ويراشقوكن بالتّهم… ما تيأسو، شو ما كترو حسّادكن شو م إنتو قويتو. واللي مبارح تَهَموكُن، رح يجو بكرا يترجّوكن ت تقبلو فِيُن، أو بوْلادُن مرشّحين للجايزة”.
كمان السقف كتير عالي والحلم بدو جهود جبارة وناس جريئة وكريمة تحط إيدها بإيد ولادو.
وحتى ما إحكي بس عن الوصية، اخترت جمل وأبيات من كتاباتو حتى تزيّن هالمقال ونرجع ندوق فيها جمال التعبير وتلفحنا قطرات منعشة من إبداع دافق متل الشلال. وكمان وقفت شوي عند الإهداءات اللي كتبلي ياها ع كتبو اللي عندي. وتذكرت إني كنت مرة بتوقيع كتاب من كتبو بمعرض الكتاب بأنطلياس، ولما فرحت وعبَّرتللو عن اعتزازي بالإهداء الرائع اللي كتبلي ياه متل عادتو، قللي شي بما معناه، أنا بحط حالي وروحي وقلبي وفكري بالإهداءات، ويا ريت بقدر لملم كل الإهداءات اللي عملتها للناس بحياتي، من أول لبنان لآخرو، كانوا بيطلعوا مُجلَّد.
اخترت من الإهداءات إهداء كتبلي ياه ع كتابو “زهرة النكتار”:
ل صديقتي من مبارح لبكرا نهاد حايك
من غربتي ب لبنان ل غربتك ب أميركا…
هالبحور من المسافي اللي بينك وبيـن وطن طفولتك بتقطعِيا ب دقّة قلب…
ولمّن وَجع الوطن بيكتر وما بيعود قلبك يلَحِّق دق…
ببعتلك زهرة النكتار “ع الهوا” وبس تفركيا بروس صابيعك اللي كلن نهاد، بتشمّي ريحة بيتكُن ب لبنان، وإيام الصبا…
كلماتو اللي رشرشها بإهداءاتو كلها نضارة ولمعات بتشرقط معاني وصياغات جديدة مبدعة. ولما قريت إهداءاتو إلي اليوم بالذات، عشية توقيع كتابي اللي ما بيسترجي يقعد أو يمرق من حد كتبو، عتِلْت هَمّ كبير.
موريس،
كلماتي نقط زغيرة حزيني واقفة قدام طوفان كلماتك الهادر…
وبتروح الذاكرة لإيام الصبا، لما بلشت إقراك،
وأول قطرة شربتها من طوفانك
طعّمِتْني للأبد بروحك الشعلانة وفكرك المشرقط
ونقاوتك اللي عِشتا بدمّك وأعصابك وقلبك.
ومن يومها بنطُر كتبك.
جمعتنا إذاعة وصداقة
وكان إلي الشرف قدم معك أمسيات شعرية…
والبرنامج الإذاعي المباشر عالهوا اللي شاركتك بتقديمو
كنت تقول فيه اللي ما حدا استرجا قالو
وقد ما خافوا من كلامك
اللي فضح الغلط وكشف الوجوه والنفوس
وقّفوه… بعد كم حلقة…
وضليت إرجع لكتبك متل اللي بيطلب النبع
متل اللي بدو ينضِّف نفسو وفكرو من صِدي الخمول
متل اللي جوعان للحقيقة
متل اللي بدو يطلع ع راس الجبل ليشوف الدني…
****
موريس، كتبك قلعة شيّدتا بنبض قبلك ولمعات فكرك
ونار ثورتك ونقاء صدقك.
إنت ترَهْبَنْت للكلمة اللي حمَّلتها قضايا الإنسان والحياة والحب والوطن.
وهالقلعة، مش راقدة معك بالتابوت،
رح تبقى واقفة بوجه الزمن، نزورها، نتحصَّن فيها،
نداوي جروح نفسنا وفكرنا فيها،
ونهَدّي خاطرنا المكسور ع هالوطن،
لأن سطورك كلها كانت شايفة الثورة جاية…
****
دقلك “جرس المسا” فتحت الباب وطلعت
تركت أوهام الأرض لوعد السما.
بين الوهم والوعد شَبَه كبير.
مشوارك ما خلص عنّا، مكمّل مشوارك عالورق.
منشان هيك ما منقلك الوداع،
لأن كل ما حدا منّا فتح كتاب من كتبك الـ 60 بيلتقي فيك.