حَبَّذا لَوْ يسقطُ القِناع

   

 في الرَّابعِ مِنْ شهر كانون الأَوَّل يحتفلُ ما يقاربُ نِصْف سكَّانِ الكرةِ الأَرضيَّة بعيدِ البرباره، وبرباره هذه قدِّيسةٌ لبنانيَّةٌ بعلبكيَّة، ومَنْ يرغبُ بمعْرفَةِ المَزيدِ عَنْها فلْيَبْحَثْ. وفي هذه المناسبة يسترُ النَّاسُ وُجوهَهُم بأَقْنعَةٍ ويموِّهونَ مَظْهرَهُم بملابِسَ تنكُّريَّةٍ كي لا يَعْرفَهُم مَنْ ينظرُ إلَيْهِم، وما نِيَّتُهم في ذلك إلَّا اسْتعادة حَدَثِ هروبِ القدِّيسة بربارة مِنْ ظلْمِ أَبيها الحاكِم ومُلاحقة جُنودِهِ لها، فأَخْفاها الله عَنْ عُيونِهِم بشُتولِ القَمْحِ التي نَمَتْ بسرعةٍ عَجائبِيَّة، كمَا جَعَلهُم يَنْظُرونَ إلَيْها فلا يَرَوْن وَجْهَها، لأَنَّ الله جعلَهُم يَرَوْنَ أَوْجُهًا مُخْتلفَةً عَنْها، هي لأُناسٍ آخرين أَو لحيَوناتٍ أَليفَةٍ أَو بَريَّة.

وإذا ما خرجْنا مِنْ مظهَرِ العيد، ومِنَ الحدثِ التَّاريخي، إلى أَجْواءِ الواقِعِ اليَوْم، ونَظَرْنا إلى أُناسٍ نَعْتقِدُ أَنَّنا نَعْرفُهُم مِنْ خلالِ كلامِهِم وأَفْعالِهِم، وذلك في جميع القِطاعاتِ الوظيفِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ والرُّوحيَّةِ والاقتصادِيَّةِ والعائِليَّة، لَرَأَيْنا في عَميقِ مَعْرِفتِنا، وبَعْدَ التحقُّقِ مِمَّا يقولُ الكثيرون، ويتَّضِحُ لنا جَوْهَرُ ما يفعلون، أَنَّ الوُجوهَ الظَّاهرةَ للعَيان، هي أَقْنِعَةُ مُراوَغَةٍ تقولُ غير ما تَقْصُد، وتُبطِن غير ما تُظهِرُ وتُخْفي خَلْفَ ابْتساماتِ النِّفاقِ والخِداع أَلْفَ ضَغينَة، وحينَ تُتَاحُ الفرصَةُ لأَصْحابِ الأَقْنعةِ هذه يَنْتَقِمونَ بِلا رَحْمَة، ويَسْلكونَ سُبُلَ الظُّلْمِ في حين يُبَشِّرونَ بالعَدالَة، ويُمارِسونَ العِدائِيَّةَ والبَغْضاءَ والكراهيَّةَ في الوَقْتِ الذي يعلِّمونَ المحبَّةَ والتَّآخي والتَّسامُح، حتَّى ليصِحَّ فيهِم المَثَلُ الشَّائِع، أذكره على قُبْحِه، «ما رأَيْتُ أَفْصَحَ مِنَ الزَّواني يتكلَّمْنَ عنِ العِفَّة». وإذا سأَلَهُم سائِلٌ لماذا هذا الرِّياءُ والعَيْشُ بالتَّكاذُب، يُجيبونَ بكلِّ وقاحة، مُسْتَصْغِرينَ عُقولَ النَّاس: الحياةُ تَفْرِضُ علَيْنا أَنْ نكونَ هكذا، وما نفعلُه ليْسَ عَيْبًا، بلْ هو عَيْنُ الصَّواب، وبِمِثْلِ هذا السُّلوكِ تَنْتَظِمُ الأُمورُ وينالُ كلُّ واحدٍ عِقابَهُ الذي تغافَلَ عَنْهُ كثيرون، ويُجاهِرونَ أَمَامَ الجميع، بأَنَّ كلَّ همِّهِم حُسْنُ تَدْبيرِ الأُمور مِنْ أَجْلِ الخَيْرِ العام وبُنْيانِ المُؤَسَّساتِ التي رأَّسوهُم علَيْها أَو وَظَّفوهم فيها، وهَدَفُهم الظَّاهر، كمَا يقولون، هو الإصْلاحُ والتَّطْوير، أَمَّا الهدفُ الباطنِيُّ فالله وَحْدَه يعلمُ مَا هو، أَنْ تركوا لِعٍزَّتِهِ مجالًا كيْ يعرفَ خَفايَا قلوبِهِم المُظْلِمَة، وخَبَايَا عُقولِهِم التي غلَّفَها الإبْليس اللَّعين، بأَلْفِ عَتْمَةٍ وعَتْمَة، فسَكَّروا أَبْوابَ الحِكْمَة، فلا هُمْ دخلُوا ولم يَسْمَحوا للآخرين بالدُّخول.

ماذا لَوْ سقطَ القِناعُ وبانَتْ تلكَ الوُجوه على حقيقَتِها؟ حينَ سقطَ قِناعُ برباره بنت الحاكِم، ظَهَر خَلْفَهُ وَجْهُ القداسَةِ الذي يَشعُّ مِنْه نورُ الإيمانِ وكمالُ المحبَّة. أَمَّا إذا سقطَتْ أَقْنِعَةُ الكثيرينَ منْ ناسِ هذه الأَيَّامِ لَرَأَيْنا «وُجُوهًا صَفْراءَ مِنْ غَيْرِ عِلَّة»، وعُقولًا حَمْقاءَ زادَ في حُمْقِها الإدِّعاء، وتواضُعًا كاذِبًا يلوحُ مِنْ شُقوقِهِ شَرُّ الكِبْرِياء، وكلُّ ذلك لا يَمْنَعُهُم منَ الإدِّعاءِ بأَنَّ كلَّ ما يفعلونَهُ صَواب، ومِنْ أَجْلِ بُنْيانِ الإنسانِ وازْدهارِ الأَوطانِ وتَمْجيدِ الرَّحْمَن.

لَوْ سقَطَتْ تلْكَ الأَقْنِعَةُ وجاءَ سَيْفُ العدْلِ ليُعيدَ الحقَّ إلى الميزان، لَوَجَدْنا كثيرين مِنْ ذَوي السُّلْطانِ مَعْصوبي الأَعْيُن، مَجْرورينَ بالذّلِّ والمَهانَةِ إلى خَلْفِ القُضْبان، وأَنَّ مَنْ كانَ يراه النَّاسُ أَميرًا مُسلّطًا مزيَّنًا بالأَصْفرِ الرَّنَّانِ والتَّاج والصَّوْلَجان، ما هو إلَّا مجموعةٌ منْ مركَّباتِ النَّقْصِ التي تركَتْ فيه أَلْفَ عَيْبٍ وعَيْب، فجاءَتِ الظُّروف، في الأَزمنةِ العِجاف، لتجعلَ منه ذا شأْنٍ، وهو لو قِيسَ بمِقياسِ الإنسانيَّةِ الحَقَّة، التي تُعْطي لكُلِّ ذي عَمَلٍ أَوْ سلطةٍ أَو خِدمَة، القِيَمَ التي يجبُ أَنْ يقدِّسَها ليَكونَ أَمينًا على الرِّسالةِ المُوكَلَةِ إلَيْه، لمَّا بَقِيَ فَوْقَ الغربال إلَّا القليل، ورُمِيَ كثيرونَ في الظُّلْمةِ البرَّانيَّةِ حيثُ البُكاءُ وصَريفُ الأسْنان.

        

اترك رد