إحياء الذكريات وقتل الحلم

       
أياً يكن مستوى اليأس الذي نشعر به من أوضاع الدولة،
ومهما علت أصواتُ النحيب على حالنا البائسة،

ومهما بلغت درجةُ النقمة والغضب،
ورغم الإقرار بحق السخرية من استقلالٍ وهميّ،
وبحق رفض الاحتفال باستقلال ناقص غير منجَز،
أنا أُصرُّ على الفرح،
ليس احتفالاً بقبح الحاضر بل حفاظاً على جمال الذكرى.
أُصرُّ على التمسك بتلك الزاوية البعيدة القريبة من ذاكرتي،
زاوية يقيم فيها فرح بريء لا تعرفه إلا الطفولة المسحورة،
فرح التلَقّي الرحب النضر لأحاسيس الانتماء والوطنية،
لفكرة وطنٍ تنسج جمالَه في وجدانِ طفلة
حكاياتٌ مبهرة وطبيعةٌ خلابة وبيتٌ وعائلة وجيران وأصدقاء،
وطنٍ تُرسِّخ قوتَه في نظرها وإيمانها صورةُ جيشٍ في استعراض،
وطنٍ يطبع حبَّه في قلبها نشيدٌ تتعلمه وتُلقيه بكل فخر
انفراداً أمام العائلة وجماعةً في احتفالات المدرسة،
وطنٍ يزرع حضورَه في كيانها علمٌ وخريطة
كانا أول ما حاولت رسمه بأقلام ملوَّنة وأنامل عاشقة،
وطنٍ يصنعُ اعتزازَها به
وُرودُ اسمِه مراراً في كتاب العهد القديم،
وطنٍ تقترن رمزيتُه وفرادتُه في بالها
برمزية شجرة الأرز وفرادتها،
وطنٍ تُكوِّن ملامحَه في خيالها
أشعارٌ وأغنياتٌ وروايات
حملتها إلى سماوات الانبهار.
أُصرُّ على الاحتفاظ بتلك الأحاسيس،
واستحضار الغبطة البريئة التي تتنعم بها عليّ ذاكرة مثقلة،
وذلك رغم ما أصبتُ به من يأس.
فمنذ فترة طويلة، وبعد مخاضٍ شرس ممزِّق،
وصلتُ إلى اقتناعٍ راسخ:
بأن دولة لبنان لا أمل في نهوضها،
وبأنها فريسة أخطبوط أبديّ يمتصُّ دمها
ويمنع الانتقال بها إلى ما يحقق طموحات أبنائها.
وصلتُ إلى استنتاجٍ مرير:
بأن كل الدماء التي سالت
والدموع التي ذُرفت
جرفَها نهرُ الهَباء.
وصلتُ إلى ثقةٍ مؤسفة:
في أن دولة لبنان فاشلة في كل شيء
وناجحة في شيء واحد فقط
هو إفشال أيِّ محاولة شعبية للانتفاض والثورة.
ذكرياتي هي المخزون،
هي الثابت في ظل حالٍ متحوِّل.
أستطيع أن أقتات بما تتيحه لي من غذاء
لأسدَّ جوعي بل مجاعتي.
ذاكرتي هي البئر أنهل منها ما يروي ظمأي،
ما يوقف تصَحُّر الواقع
ويُبقي فيَّ رمقاً يحب ويفرح.
قررتُ أن أحيي الذكريات وأن أقتل الحلم.
بترتُ أغصانه.
أجهضتُ بذوره كي لا تولَد أحلامٌ جديدة تؤذيني.
نعم، أصبح الحلم في انبثاق دولة لبنان المرجوة
حلماً مؤذياً.
قررتُ الاكتفاء بفكرة الوطن،
الوطن الجميل بمقوِّماته الثابتة الأخرى
التي تساعدني على البقاء:
الطبيعة والإنسان والأدب والفن والموسيقى.
قررتُ الانفصال عن الدولة
لأحافظ على ارتباطي بالوطن.
لبنان الوطن ليس لبنان الدولة.
لبنان الدولة مَقيت منفِّر مقزِّز،
مثير للنقمة والثورة والغضب واليأس والهروب.
لبنان الوطن بمقوِّماته الثابتة تلك، هو ما أُحِب
وهو ما أحتفل به
وهو ما سوف يظل حياً في ذاكرتي وحاضري
إلى أن يحين الرحيل.
(22- 11- 2018)

لوحة لمصطفى فروخ (1901- 1957)

اترك رد