جاءَني في عشيَّة يَوْمٍ مُلبَّدٍ بالغيوم الدَّاكنة ٱبْنُ أَحدِ أصدقائي وعلى وَجْهِهِ علاماتُ الحيرةِ وفي عَيْنَيْه عتمةُ القلقِ مَنَعَت الدَّمعَ من أَنْ ينزلَ ليُفصِحَ عمَّا في قلبِهِ من تساؤُلاتٍ وفي نَفْسِه مِنْ خَيْبات، فبادَرْتُه بالسُّؤَالِ عَمَّا به ومَا هي أَسبابُ غِيابِ ضحكةٍ شَبابِيَّةٍ كنَّا قد تعوَّدْنا على رُؤْيتِها على مُحَيَّاه. فقال: أَنا لا أَرى مِنْ حَوْلي إلَّا ما يَدْعو إلى اليَأْسِ منَ العَيْشِ في هذا الوطن، ففكَّرْتُ أَنْ أَطرُقَ أَبْوابَ الدُّنْيا عَلَّني أَجِدُ، في مكانٍ ما، مُتَّسَعًا لي ولأَحلامي وطُموحي. كنتُ أُصْغي إليْهِ وكأَنِّي لَسْتُ بحاجةٍ إلى كثيرٍ منَ الكلامِ كَيْ أَقْتنِعَ بوِجْهَةِ نَظَرِه وهي حالُ الكثيرينَ مِنْ أَتْرابِه، ولَيْسَ في الأُفُقِ ما يُشيرُ إلى اقْترابِ الفَرَج.
وتابعَ قائِلًا إنْ شِئْتَ يا أَبَتي أُعدّدُ على مسامِعِكَ ما يُردِّدُه مُعظمُ الشَّبابِ الَّذين يَنْظرون إلى الأُمورِ كما أَنظرُ إلَيْها أَنا. أَلا يَكْفي التَّشَنُّجُ السِّياسِيُّ بَيْنَ المَجْموعاتِ ليَزيدَ على ضَبابيَّةِ المَشْهدِ بُقَعًا سَوْداءَ يرى النَّاظرُ إلَيْها ضيقَ الأُفُق، وكأَنَّ رغبَةَ بَعْضِ المتنفِّذينَ هَدْمُ أَحلامِ البُنْيانِ والبَقاءِ في مُسْتنقعاتِ الرُّكودِ والتَّخلُّف، مَا يهمُّهم مِنَ العملِ في الشَّأْنِ العام زَعامات مزيَّفةٌ وجُيوبٌ عَطْشَى للمزيدِ منَ الأَصْفرِ الرَّنَّان. وُعودٌ ووُعودٌ ولا نَرى أَيَّ شَيْءٍ يتحقّق، فاسِدونَ يَحْميهم فاسِدون، نِسْبيَّةٌ ومزاجيَّةٌ في تطبيقِ القوانين، ناهيكَ عنِ القوانينِ الَّتي مَرَّ الزَّمَنُ على صلاحيَّتِها. يقولون لنا لبنان بلدٌ سياحيٌّ وجميعُ المرافقِ السّياحيَّةِ مُهْمَلَةٌ وعرْضَةٌ للنَّهْبِ والدَّمار. مشكلةُ النِّفاياتِ تكبرُ وتكبر حتَّى زادَ حَجْمُها فتجاوزَ المشاكلَ السِّياسيَّةَ وكأَنَّ سُبُلَ حلِّها مقطوعة. رُسومٌ وضرائبُ تُطلَقُ بعَشْوائِيَّةٍ لتُغذِّيَ خزينةَ المالِ العامِّ الذي يُنهَبُ على عَيْنك يا تاجر، وإنْ شاءَ أَحَدٌ أَنْ يحاسبَ أَو يراقِبَ تقومُ الدُّنْيا ولا تقعُد وتَسْتفيقُ النّزعات الطائفيَّة والمذهبيَّة وكأَنَّ الإصلاحَ عدوُّ الله والدّيانات. أُنْظُرْ إلى الانْحرافِ في المؤَسَّساتِ العامَّةِ والخاصَّة، وابْتِعادِ المَسْؤُولين عنِ القيَمِ والفضائِل الروحيَّة.
وهنا توقَّفَ صديقي عنِ الكلامِ ليأْخذَ جرعةً من الهواءِ وأَضافَ، حتَّى الهواء أَفْسَدوه وكذلك الماء والزَّرع والضرع، وتطلبُ منِّي أَلَّا أَيْأَسَ منَ العَيْشِ في هذا الوطن! ولَوْ شِئْتَ أَنْ أُكمِلَ لكَ سُبْحةَ الفسادِ لَمَا توقَّفْتُ عنِ الكلامِ شهرًا.
تردَّدْتُ في الجوابِ ولكنِّي وَجَدْتُ نَفْسي مُضْطرًّا إلى إعطاءِ صديقي صورةً أُخرى عنْ وَطَنِه، عَلَّهُ يخرُجُ منْ بُؤْرةِ اليَأْسِ التي تُحيطُ به وهو على حقٍّ، فقلتُ: على الرُّغمِ منْ كلِّ مَا ذكرتَ وما لمْ تذكُر، ممنوعٌ اليَأْس وأَسباب هذا المَنْع كثيرة. فالنَّاسُ الطَّيِّبونَ كُثُرٌ وهم يحملون هذا الوطنَ في عُقولِهِم وقلوبِهِم لأَنَّه ليس كسائِرِ الأَوْطانِ جبالًا ووهادًا وسهولًا وأَنهارًا وأَشجارًا وترابًا وصخورًا. إنَّه يا صديقي وطنُ الحرِّيَّة على الرُّغْمِ منْ كلِّ مظاهرِ العبوديِّةِ التي فيه، وأَنْتَ وأَمْثالُكَ مَسْؤُولون عن هذه الحرّيَّةِ لتَحْمِلوها لأَولادِكم وجيرانِكم وأمثالِكم في بقاعِ الأَرضِ المُظْلِمَة.
إنَّه وطنُ الدِّيمقراطيَّة على الرُّغم من احْتكارِ السلطاتِ مِنْ هذا وذاك عشرات السِّنين وكأَنَّ الذين يَصْلحون للعملِ في الشَّأْنِ العام قد شَحّوا، حتَّى بِتْنا لا نسمعُ إلَّا بعضَ الأَسْماءِ في بعضِ المناصبِ وما عدا ذلك خواءٌ وخلاء. إنَّه وطنُ القداسةِ عَبْرَ التَّاريخِ فالقدِّيسونَ يحملونَ هَمَّكُم إلى السَّماء، وربُّ السَّماءِ لا يُهْمِلُ مُرْتجيه وطلباتِ قدِّيسيه.
إنَّه وطنُ الفرحِ الذي مَا غَلَبَهُ اليَأْسُ يَوْمًا على الرُّغم منَ العصورِ المظلمةِ السَوْداء التي مَرَّتْ علَيْه، وقد رَحَل الظالمون وبَقِيَ هذا الشَّعبُ على أرضِ وَطَنِهِ يكافحُ بفَرَحٍ وأَمَل، وكأَنَّ اليَأْسَ لَيْسَ مَوْجودًا في قاموسِه.
ولا تَنْسَ أَنَّ كلَّ الأُمورِ إلى زوال، ولا يَبْقى على حالِهِ إلَّا منظِّم الأَحْوال. فاتَّكِلْ علَيْه وٱسْعَ، فساعاتُ اللَّيْلِ قصيرةٌ مَهْمَا طالَتْ ولا بُدَّ للشَّمْسِ مِنْ أَنْ تعود.
هذه يا ٱبْني الصُّورُ التي يجبُ أَنْ تَحْمِلها لتَمْحوَ بها صُوَرَ التَّخلُّفِ والخَرابِ التي وضَعَها أَرْبابُ السُّلطات، نتيجةَ سُلوكِهِم وأَقْوالهم وأَفْعالهم، في رؤُوسِكُم الحالِمَة.