كتاب عن رائد الرسم الكاريكاتوري في لبنان الدكتور الياس حداد
من زيارتي لمعرض الكتاب الفرانكوفوني Le Salon du Livre (المستمر حتى 11 تشرين الثاني الجاري)، قطفت كتاباً من أبرز الكتب القيِّمة الصادرة هذه السنة وعنوانه:
Elias Michel Haddad
Un pionnier de la caricature au Liban
entre 1942 et 1962
إنه كتاب/مجلّد يوثّق أعمال الدكتور (جراح الأسنان) الياس ميشال حداد (1914-2001)، رائد الكاريكاتور في لبنان في الفترة 1942-1962. وقد صدر بعد مرور 17 سنة على غيابه.
غلاف الكتاب لوحة رسمها الدكتور الياس حداد لساحة البرج أو ساحة الشهداء كما رآها من عيادته الكائنة آنذاك في الطابق الأول من مبنى الإنتركونتيننتال. ويتألف هذا المجلد من 346 صفحة من الحجم الكبير. نشرته جامعة الروح القدس (الكسليك) وأعدّه نجل الرسام، البروفسور روبير الياس حداد. وهو يشمل الرسوم الكاريكاتورية التي نشرها حداد في الفترة 1942-1962، الفترة التي حصل فيها لبنان على استقلاله وشهد نشوء الدولة اللبنانية وما حملته من مخلّفات الإرثين العثماني والانتدابي.
يبدأ الكتاب بصفحات من مذكرات الدكتور الياس حداد، يروي فيها بعض المحطات من سنوات الدراسة حيث كان إظهارُ موهبته في الرسم الكاريكاتوري وشخصيته كفنان ثائر يكلفه ساعات وساعات من العقاب. كما يروي الظروف السياسية التي أحاطت بولادة أفكار عدد من رسومه الكاريكاتورية وردود الفعل عليها، ومنها استدعاؤه للتحقيق معه. ومما يرويه أيضاً علاقته الوثيقة مع كل من الشاعر فارس جبر والصحافي فؤاد حداد الملقب بـ”أبو الحن” (والذي اختُطف واغتيل بسبب كتاباته في عام 1958، ولم تظهر جثته حتى اليوم).
ثم جُمعت الرسوم وفقاً لموضوعها، فجاءت تحت العناوين: الرسوم الأولى؛ المعارضة؛ انتخابات عام 1947؛ سياسيون وشخصيات؛ رسوم في عهد الرئيس بشارة الخوري؛ كاريكاتور اجتماعي سياسي؛ كاريكاتور كمال جنبلاط؛ لبنان والشؤون الدولية. وفي الكتاب أيضاً فصل يعرض مقابلات صحافية أجريت مع الدكتور الياس حداد ومقالات كتبت عن أعماله في الصحافة اللبنانية. كما تضمن الكتاب لمحة تعريفية بالشخصيات السياسية التي كانت فاعلة على الساحة السياسية في تلك المرحلة من تاريخ لبنان.
وخُصص الفصل الأخير من الكتاب لمقال معمق بعنوان “الكاريكاتوريست”، بقلم البروفسور بول مارتن لستر، الأستاذ في قسم الإعلام بجامعة ولاية كاليفورنيا، في أميركا.
ورق فاخر وإخراج فنّي متقَن. وكل صورة معروضة في صفحة كاملة وفي أسفلها موضوع الرسم الكاريكاتوري باللغتين العربية والفرنسية، وبعضها ذُكر موضوعها أيضاً باللغة الإنكليزية.
يقول الأب البروفسور كرم رزق، عميد كلية الإنسانيات والآداب في جامعة الروح القدس، في تقديمه للكتاب: “إن رسام الكاريكاتور الدكتور الياس حداد يستحق فعلاً لقب عميد رسامي الكاريكاتور في لبنان، فهو قد شكَّل أسلوباً خاصاً به وجمع في شخصيته مواهب عدة، فكان نحاتاً ورساماً وكاريكاتورياً، إضافة إلى كونه طبيب/جراحَ أسنان، مما جعله يحوِّل عيادته إلى مرسَم”. ويضيف الأب رزق: “لقد فتحَت له فترةُ الاستقلال المجال واسعاً لممارسة موهبته. فقد انحسرت الرقابة آنذاك وعمّ هواء الحرية في البلاد. وركز الدكتور حداد أعماله الكاريكاتورية على عهد الرئيس بشارة الخوري. ونرى كم أن الحال في تلك الفترة تشبه حال اليوم. وكأن الواقع السياسي والاجتماعي المذري في لبنان هو صفة أبدية. الكهرباء التي لا تضيء، والأدوية التي تتبخر من السوق رغم أسعارها الخيالية، وقانون الإيجار المجحف، وأمراض الطائفية، والأيديولوجيات المتناحرة، والمؤامرات السياسية وما رسخته من فساد وكذب وتزوير في الانتخابات، والتوظيف على أساس الواسطة لا الكفاءة، والخنوع للنفوذ الخارجي، وغير ذلك الكثير”.
ويقول الأب رزق “إن نشر هذا الكتاب هو تكريم للدكتور الياس حداد، فرسومه الكاريكاتورية تشكل عنصراً مشرقاً من ثروة مكتبة جامعة الروح القدس يضاف إلى ما تقتنيه المكتبة من مجموعات غنية تحفظ للأجيال الحاضرة والمقبلة التراث الوطني والذاكرة التاريخية والفنية”.
ابنة الدكتور حداد، الإعلامية والكاتبة كلود حداد كتبت في تقديمها للكتاب إن والدها “كان أول رسام كاريكاتور ينشر رسومه في الصحف اليومية، علماً بأنه كانت تصدر في لبنان آنذاك مجلة متخصصة بالكاريكاتور هي مجلة “الدبور”. وقد عرَّض نفسه مراراً لخطر السجن بسبب رسومه الناقدة والساخرة، ولكنه كان دائماً ينجو بنفسه لأنه كان يحترم قوانين ومحرَّمات تلك المرحلة. كان ينجح بتخطّي تلك المحرَّمات بذكاء وفن، ليقول بالكاريكاتور ما لم يكن يجرؤ الآخرون حتى على التهامس به”. وتضيف كلود حداد: “هذه الرسوم هي ذاكرة مرحلة ولَّت، وهي مرحلة محتها حربٌ غيَّرت وجه لبنان وشعبه وخصوصاً سياسييه”.
نلاحظ من دون استغراب أوجه الشبه الكثيرة بين الأمس واليوم في ما يتعلق بالواقع السياسي والظواهر الاجتماعية والأحوال الاقتصادية. فغالبية الوجوه السياسية التي كانت متحكمة بالمشهد السياسي آنذاك رحلت، ولكنها “لا تزال حاضرة في مشهد اليوم عبر الأبناء والأحفاد أو الأقارب والمقربين”، حسبما ذكر الناشر في التعريف بالكتاب.
هذه الرسوم الكاريكاتورية تختصر حقبة من تاريخ لبنان امتدت عقدين من الزمن، وهي تعبير خاطف ومضخَّم في آن، يقول بالرسوم وأحياناً مع إرفاقها ببعض الكلمات، ما لم تقله الدراسات والروايات التاريخية. فالصورة، كما يقول المثل الصيني، تساوي عشرة آلاف كلمة. والجدير بالذكر أن الدكتور الياس حداد، بحكم مهنته كطبيب أسنان، لم يكن يتقاضى أيّ أجر لقاء نشر رسومه في الصحف.
أشير إلى أن التقديم والتمهيد وكلمات الشكر والمقدمة وعرض الموضوع في أول الكتاب، والمقال عن الكاريكاتوريست الذي يقع في نهاية الكتاب، واللمحة عن الشخصيات السياسية، ترد كلها بالفرنسية وبعضها أضيفت إليه الترجمة الإنكليزية. كذلك فإن مذكرات الدكتور الياس حداد هي باللغة الفرنسية.
وإذا كان من ملاحظة أسجّلها على الكتاب فهي أنه كان يُستحسن أن تضاف الترجمة العربية أيضاً إلى كل النصوص. فهو أولاً وآخراً كتاب عن فنان من لبنان، يتضمن رسوماً كاريكاتورية مع تعليقات بلغة البلاد، العربية.
التهنئة لولدَي الدكتور حداد، روبير وكلود، اللذين بإنجاز هذا المشروع قد استكملا المهمة التي قام بها والدهما، فخلّدا سيرته ومسيرته. والتحية لجامعة الروح القدس التي أضافت بهذا العمل ركناً قيِّماً من أركان تراثنا المشرِّف. هذه رسالة تعمل الجامعة من خلالها على إظهار وترسيخ النتاجات الإبداعية والفنية والثقافية والفكرية اللبنانية، وهي في سباق مع اتجاه آخر يواصل تكرار المساوئ والفظاعات التي تشوِّه تاريخ وحاضر ومستقبل هذا البلد المُبتلي بسياسييه. وكلنا أمل في أن تتفوق هذه الرسالة النبيلة على مسار التشويه وأن تحقق انتصاراً ساحقاً عليه.
(9- 11- 2018)