“أبعد من حدود الوجود”


  

كلّما ناداني الحنينُ إلى لقاءِ الحروفِ، أدركتُ أنّني مقبلةٌ على سفر… وإنّنا إذ نمتشقُ اليراعَ ونشدُّ الرّحال، لا نعلمُ إلى أيّةِ عوالمَ سيحملُنا. ولكنّنا متى عدْنا من رحلتِنا، ووقفْنا نستمعُ إلى موسيقى الكلماتِ الموقّعةِ بحبرِ مشاعرِنا، أيقنّا أنّ الجُمَلَ تحوّلَتْ إلى معزوفةٍ، نتراقصُ معها نَوْحًا أو طربًا، وفقَ إيقاعاتِ أحاسيسِنا التي أبدعَتْها أو أنتجَتْها أو تقيّأَتْها… تبعًا لحالتِنا النفسيّة.

حين كتبتُ هذه الوجدانيّات – التي استحقَّ نصُّ “أبعدَ من حدودِ الوجود” أن يسودَها، ويكونَ عنوانًا كبيرًا لها جميعًا – لم أكنْ أحلمُ بكتاب، جلُّ ما قصدتُه هو أن أنقلَ ما ينتابُني من مشاعرَ في لحظاتٍ فريدة، حيثُ يسطعُ وهجُ الأحاسيسِ مُشعًّا، وينعكسُ على جدارِ الصفحةِ أمامي، فينغمسُ يراعي في الحروفِ انغماسَ الريشةِ في الألوان، ثمّ يرفعُها، ويعودُ فينثرَها مَشاهدَ تضجُّ بالحياة، إيقاعُها نبضُ قلبي، أكانَ حزينًا أم سعيدًا.

هو سفرٌ فعليّ، إلى عمقِ الذات، إلى حشا الروح، إلى اللّحظةِ التي تكون، لتنتهي فلا تتكرّر، إلّا في الذاكرة، ليس في ذاكرتي فحسب، وإنّما قد تحيي ذكرى مماثلة لها في ذاكرةِ كلِّ من يتناولُها في هذا الكتاب، إذا ما لمحَ فيها أثرًا لروحِه.

أسميتُه سَفَرًا، والسَّفَرُ – كما تعلمون – لا يحلو من دونِ رفيق، لذا كانَ لا بدَّ لي من إيجادِ مكانٍ مناسبٍ يجتمعُ فيه كلُّ من يعشقُ السَّفَرَ في عالمِ الكلمةِ الساحر، ليشاركَني رحلتي، ويستمتعَ مثلي بتفاصيلِها.

وكانَ اللقاء.

اِسمٌ لامعٌ دعاني بصمت، كما دعا كثيرين قبلي. أهوَ الاسمُ أمِ القلب؟ لا يمكنُني أن أحدّد، فالاثنان يتنافسان على الأولويّة، من دونِ أن يطغى أحدُهما على الآخر: الأنوارُ اِبنةُ دارِ الصيّاد، ومسؤولُ الصفحةِ الثقافيّةِ فيها جورج طرابلسي. لا أنسى حديثي الأوّل معه، وردَّه على رسالتي: “انضمامُكِ إلى أسرتِنا… شرفٌ لنا”. هي الأسرة، هذا ما يولّدُه فيكَ جورج طرابلسي من إحساس؛ ولطالما ردّدَ باختصارٍ شديد، وبضميرَيْن لا فاصلَ بينهما، عبارتَه الشهيرة: “أنتم أنا”. فكيف لمن يساويك بنفسِه، ويَعدُّكَ فردًا من أسرتِه، ألّا ينالَ أضعافَ هذا الحبّ؟ لقد كانَ الأبَ والرأسَ المدبّر؛ وسيبقى جورج طرابلسي، كبيرُنا الذي واكبَ منشوراتِنا واعتنى بها، حاضرًا في ضميرِنا ووجدانِنا، بالرغمِ من التغييبِ القسريّ للأنوار؛ سنلقاهُ كلّما عانقْنا حروفَ كلماتِنا التي تلقّفَتْها يُمناه، وأطلقَتْها إلى النورِ عبرَ الأنوار*.

أيضا شكري لموقع جريدة النهار الذي نشر من هذا الكتاب مقالتي “موعدٌ مع جدّتي”؛ وللصديقة الغالية الإعلاميّة كلود أبو شقرا، التي تابعت باستمرار كلّ ما كان يُنشَر من كتاباتي، وعرضته بدورِها على موقعها الثقافي Thaqafiat.

وإنّي، إذ أذكرُ الكُرماءَ، لا يفوتُني أن أذكرَ أستاذي الدكتور ربيعة أبي فاضل. هو سيّدُ العزلةِ في زمنِ العولمة، اَلمحافظُ على صفاءِ روحِهِ، وسحرِ كلمتِهِ، وأناقةِ ذائقتِه، ونقائِهِ وعمقِه. أستاذي الذي تُلهبُ قلبَهُ الكلمةُ الصادقة، ويَحرقُهُ الظّلمُ المستبدُّ بفقراءِ هذه الأرضِ وودعائِها. ما هانت كلمتُه ولا لانت، إلا للحبِّ والخير؛ عصيٌّ، لا يجاورُ المبتذَل، ولا يخوضُ في تافهِ الأمور. أوصدَ بابَه على ضجيجِ العالمِ وصخبِه، مشرّعًا سقفَهُ لرحابِ اللهِ المقدّسةِ النّظيفة. لا يلجُ عزلتَه أو ينعمُ بسحرِها، إلّا من كانَ فيه شيءٌ من طينتِه. تتلمذْتُ عليه، ونعمْتُ ببركاتِه.  وجاءَتْ كلمتُهُ في تقديمِ كتابي تتويجًا أعتزُّ به وأكبُر.

ولا يفوتُني أن أذكرَ كلَّ من توقّفَ عندَ نصوصي، وتفاعلَ معها، مبديًا رأيَه، ومن كتبَ فيها نقدًا بنّاء، ومنحَها من وقتِه. وقد تمَّ اختيارُ بعضِ التعليقات، على قدرِ ما يَسمحُ حجمُ الكتاب، من ضمنِها مقالٌ للسفيرِ المغربيّ الصديق الدكتور محمّد الخطّابي، نُشر على موقع aleph-lam، حولَ نصِّ “صخورٌ ودرر”، وأُدرجَ مع التعليقاتِ التي وردَتْ في الختام، بمثابةِ تحيةِ شكرٍ لكاتبيها على محبّتِهم وتقديرِهم.

كذلك شكري الكبير للصديق الأستاذ نادر فؤاد كحيل الذي صمّمَ الغلاف، وأخرجَ الكتابَ بهذه الحلّةِ الجميلة، ورحّبَ بالتعديلات المتكرّرة التي كنت أُدخلها، بمحبّة وأخوّة وصبرٍ جميل.

وتبقى الكلمةُ الأخيرة، ومسكُ الختام، في مَن كانَ لهُ الفضلُ الأوّل والأكبر في عودتي إلى عالمِ الفكر، عنيتُ به رئيسَ “مؤسّسةِ شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة”، الصديق الحقوقيّ الدكتور سابا زريق، الذي قرأَ كتابي الأوّل “خيّ جيديوس”، فأُعجبَ بأسلوبِه، ونالَ حظوةً لديه، فأعلنَ عن موافقتِهِ على طباعتِه، ليكونَ أوّلَ إصدارٍ من مؤسّستِه، بعد مجموعةِ “الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء”. لقد كانت انطلاقةُ كتابي “خيّ جيديوس” سنة 2013، بمثابة البابَ الذي ولجْتُ منه إلى عالمِ الفكرِ الجميل الذي افتقدته طويلًا. عدتُ من غربتي بشوقٍ كبيرٍ إلى قلمي، الذي أضحى رفيقي الدائم، في البيت كما في الجامعة… حتى ما بعد ولادة هذه الوجدانيّات.

لقد واكبَ د. سابا زريق كلَّ كتاباتي، وأسداني النصح. تعلّمْتُ منه الرصانةَ في الكتابة، ونبذَ الركيك، ممّا لا يتضمّنُ عمقًا أو جماليّة. فجاءَتْ مجموعةُ “أبعدَ من حدودِ الوجود” خلاصةً مصطفاةً من بينِ عددٍ غيرِ قليلٍ من النصوص، التي خضعَتْ لإشرافِهِ وتوجيهاتِه، فكان نصيبَ ما نالَ استحسانَه منها، الظهورُ على صفحاتِ جريدةِ الأنوار.

اليومَ يتوّجُ د. سابا زريق رعايتَهُ لهذه الوجدانيّات بتبنّي مؤسّستِهِ لها، ونشرِها، من جملةِ ما تقومُ بنشرِهِ من كتبٍ لأدباءَ وباحثينَ مرموقين، خدمةً للثقافةِ بشكلٍ عام، وللمنبرِ الثقافيّ الطرابلسيّ بشكلٍ خاص.

إنّ اللقاءَ بالدكتور سابا زريق هو بحدِّ ذاتِهِ سفرٌ إلى عالمِ الفكرِ الجميل. تلقاهُ فيُدخلَكَ معه إلى معقلِ الثقافةِ الطرابلسيّ، ترى مدينةً تتفتّحُ أزرارُ الفكرِ فيها بعدَ شتاءٍ عاصف، يفوحُ ضوعُها فيعيدَ لطرابلسَ شذا زهرِ الليمونِ الذي نَعِمَ بطيبِهِ أهلُها في زمنِ شاعرِ الفيحاء. حين تلتقي سابا زريق الحفيد، لا بدَّ لك أن تدخلَ عالمَ جدّه، وتتيقّنَ من وجودِهِ الدائمِ والحي، من خلالِ ما ينقله لك من أخبارٍ عمّا تزخرُ به طرابلسُ اليومَ، من مؤسّسات ومنتدياتٍ وقاعاتٍ مشرّعةٍ لكلِّ راغبٍ في العلم والمعرفة. تأخذُكَ الدهشةُ لوفرةِ النشاطاتِ الثقافيّة، وتتيقّنُ أنَّ طرابلسَ تعيشُ عصرَ الثقافةِ الذهيّ، محيية ًتاريخَها القديم؛ ولا تفاجأُ بعدَها، حين يُعلنُ لك الخبرُ العظيم: انتُخبت طرابلسُ عاصمةً للثقافةِ العربيّةِ للعام 2023.

الكلمةُ لكَ الآن، عزيزي القارئ، إذ أدعوكَ لمشاركتي في رحلتي الفكريّةِ المتواضعة، راجيةً أن تنعمَ وتستمتعَ. أدامكَ الله.

(12 تشرين الأول 2018)

****

(*)أوقفت دار الصياد إصدار منشوراتها، بما فيها جريدة الأنوار، الإثنين الواقع فيه الأول من تشرين الأول 2018.

 

 

 

اترك رد