حين ينتابنا دُوَار العبث، يجمّد صقيعُه نبضَ الحياة الذي كان يدبّ جذِلًا في شرايين نفوسنا؛ يحجب ضبابُه عنّا الرؤية، فتضيع الطريق، تختفي خلف أمواجِ الرّيبة والملل، وانعدام الإيمان أو الثقة بأنفسنا وبمعنى هذا الوجود! تتحوّل سهول الخير، التي ألِفت أرواحُنا الرقصَ في ساحاتِها الرحبة، على هواها، إلى غابةٍ من الأشواك، كثيفةِ السواد، لا جمال فيها ولا ثمار تُرجى منها. تعلو وتعلو… تنعقد حول أقدامنا، تتسلّقها لتصلَ إلى ما فوق رؤوسنا… تحجب الشمسَ والهواء، فلا نعود نرى سوى الثعابين والحشرات السامّة المعشّشة داخل هذه الغابة؛ وتخنق المياه الآسنة التي يغرق فيها المكان، أنوفَنا، تغمرنا رائحتها المقزّزة أكثر فأكثر، تشدّنا إلى بؤرتها، وتعزلنا عن سمائنا!
كيف ينمو هذا العبث؟! كيف تتشابك أشواكه بصلابة حول كياننا؟! كيف يفقأ أعينَنا ويُصمُّ آذانَنا إلا عن فحيح أفاعيه وأزيز أغلاله؟! كحيوان مفترس تمكّن من فريسة دسمة يقبض علينا، ينهش بأنيابه الحادّة أبدانَنا، يمزّقها بنهم، بحثًا عن نسغ الحياة في عروقنا، ليمتصه وينتشي، إذ يمدّه موتُ الحياة فينا بالقوة، فيغتبط بالنصر!
كيف أستعيد عالمي وأتفلّت من براثن هذا العبث؟ كيف أحلّق مرتفعة نحو سمائي وأتحرّر من قيود العدم؟ كيف أطلق لبياض جناحَيّ العنان لينفضا برفرفتهما الحرّة غبار الهمّ العالق بهما، ويغتسلا بنور الشمس؟!
سأعود الى ذاتي، أقف أمام مرآتِها الحرّة النقيّة، ملقية عنّي كلّ ما علق بي من أدران الواقع وعبثيّته، أعود الى حالة الهيولى، إلى الضعف الذي يمدُّنا بالقوّة، إلى الشفافية التي تسِمُنا بالنقاء، الى الوداعة التي تغلب الرياح، حرّة من كلّ قيد، لأنطلقَ محلّقة في سمائي من جديد، معانقة سحر الوجود، كما الفينيق المنبعث من محرقة الموت، كما الينبوع المتفجّر من باطن الظلمة، كما نور الشمس المنساب بحنوّ من بين جبال الغيم، وكما البرعم المنعتق برقّة من قيود التراب الصلبة، مشرّعة نوافذ ذاتي للحياة، بلا حدود!
****
(*) جريدة النهار 26 سبتمبر 2018.
إِلى الأَدِيبَةِ مارلِين سَعادَة
أَصَبتِ، يا صَدِيقَتَنا، كَعادَتِكِ الدَّائِمَةِ في التَّسدِيد.
مَقطُوعَتُكِ هذه تُؤَلِّفُ بَينَ العُمْقِ الفِكرِيِّ، والوِجدانِ المُرهَفِ، واللُّغَةِ الشِّعرِيَّةِ الرَّاقِيَةِ، وأُسلُوبٍ يُذَكِّرُنا بِجُبرانَ وصُوَرِهِ وخَيالاتِه.
وَعَلَيهِ…
فَفِيها دَعوَةٌ إِلى الأَمَلِ، وَتَحَدٍّ لِلغَثَيانِ المُنسَرِبِ في أَخدارِنا، ونُهُوضٌ بِالذَّاتِ إِلى حَيثُ لا تَتَسَلَّلُ أَفاعِي العَبَث!
لا حَرَمَنا الهُق مِن هذا المِدادِ المُحْيِي!
مُورِيس وَدِيع النَجَّار 30/9/2018
أن نمتلك ناصية الكلمة ونودعها كل مكنونات ذواتنا نعمة، لا يضاهيها أهمية وجمالا سوى وجود من يعانق فكرنا ويشاركنا رحلة التحليق في رحابه اللامتناهية. لا حرمنا الله من حضورك البهي شاعرنا العزيز موريس وديع النجار.