اختارت ان تقضي يومها دون أن تزعج احدا ، اعتزلت الناس رغم أنفها ، وجدت نفسها في قبضة التعاسة تقطن في خرابة على أطراف المدينة، تشمئز روحها من نعيب الغربان فيها ، نوم و استيقاظ و فرن ، نوم و استيقاظ و فرن ، نوم و استيقاظ وفرن ..
بعينين ذابلتين ووجه عظمي فارغ تجر قدميها في عتمة الفجر و تمسك فوق رأسها صينية بقبضتها الرخوة ، عليها لفافة أكياس فارغة، تقصد الفرن الكئيب ، تتوقف كل بضعة خطوات تنزع الحصي المشاكس من بين أصابع قدميها و الشبشب المهترئ ، تحدق في المباني الغامضة، تقلب قلبها في السماء برغباتها الدفينة، هيئتها أكبر شجب لتمايز البشر ، ترى من جعلهم متمايزين فجاجة هكذا تسأل؟
شبعت من الكلام المراوغ كريه الرائحة و المذاق؛ فلم تعد تستعذب منه شيئا .. غربة ولدها الأوحد أرجحت حياتها ، فوجعها في الأعماق يؤلم كما تؤلمها أمراض الشيخوخة .. لم تلعن حظها السيئ ، كما لم تستطع السيطرة عليه ، تركت حياتها تسير دون تدخل ، أفسحت لنفسها ثقب الإبرة .
بحثت عن الذين يعيشون الآلام نفسها كي يفهموها دون اصطناع الشفقة، فحديثهم يلمس وجعها كلمس الدمل الطائش ؛ انقطعت أخباره ، قالت لنفسها في إفاقة منبهة :
لم يكن ولدي ليستطيع شيئا إذا لم يسافر .
مع فوات الوقت تعمقت في روحها الندوب .. بدا لها القمر حزينا إذا استشعرت غيابه السرمدي كالسم يفتك بأحشائها .. طلع منها صوت يشبه نشيجا عابرا لقطة صغيرة .
لم تكن تتخيل ان للغياب مخالب ، كانت تدعو له في السر :
” يجعل يومي قبل يومك”
واصلت طريقها و في جعبتها يقين الدعاء ، لم يكن يقلقها سوي أن تلفظ انفاسها الأخيرة قبل أن تراه .. دفعت ثمن غربته من عمرها أياما و ليالٍ .. نما قلقها عليه فلم تسيطر على رضاها عن الحياة .. أوشكت أن تنادي عليه في الأزقة و الطرقات من فرط خوفها عليه..
كيف أتحمل أوجاعي اللاهبة في معركة الحنين ؟
تحدث نفسها :
” سأنتظره علي الضفة الأخرى إذا مت قبل أن أراه”.
سمح لها غيابه بالهلوسة و التخريف بكل الأسئلة الحارقة .
عقارب الساعة تسير بينما تتضاءل فرصة لقائها به .. انسكب العمر كما ينسكب الماء تموت ببطء موت شجرة ..عزاؤها السار أن يكون بجانبها .
استدارت علي نحو هادئ مغادرة الفرن ، بأكياس العيش ، و حين اقتربت من المنزل، لم تصدق ما رأته.. طارت من الفرح .