“الخشب أهندسه أثاثاً وأنحته مغامرة شيّقة تستنطق الذات”
الصداقة لا تقاس بزمن، هي تبقى حيّة في النفس ما دام الشوق إلى الآخر لم ينضب، واللهفة إلى الصديق لم ينص ضوؤها. عمر مضى وما زلت أحنّ إلى غاليري دامو، هذا المكان الفني- الأدبي،الذي أصمّ فيه ابراهيم وسليمى زود، صوت الحرب، بجعله نقيضها، ساحة للسلم، تنتعش فيها النقاشات الأدبية، والمسارّات الشعرية والمباريات الموسيقية.
ولدت غاليري “دامو”، ومعها رسالتها الثقافية- الفنية، إثراستقبالها على جدرانها، المعرض الفني اللبناني، الجماعي، الذي كان له صداه في روما،في آن مع احتفالهابتطويبالأب شربل مخلوف، قدّيساً، وتقديم مسرحية ” شربل” لريمون جبارة. لوحات كبار الفنّنانين اللبنانيين، حضرت في هذا الحدث، من جبران خليل جبران، وسمير أبي راشد، وعمر الأنسي،إلى رفيق شرف، وصليبا الدويهي ومصطفى فرّوخ وبول غيراغوسيان، فكان لعرضها في غاليري دامو، بداية لرسالتهاالثقافية- الفنية، التي ظلّت مستمرة رغم تفاقم الأوضاع الأمنية حتى العام 1988 ، حيث أجبرت، على غرار العديد من القاعات الفنيّة، على إقفال ما بذلهالمثقّفون والمتفائلون من تضحيات، حفاظاً على الإبداع اللبناني، وإبقاء منارته مشعّة.
سليمى وابراهيم زود،، إسمان في كائن واحد، حفرا في أعماقهما محترفاً لطموحاتهما التشكيلية،والفنيّة. المقرّبون منهما، وجدوا لديهما روحاً تتفاعل مع الوجود. زوجان متناغمان، منسجمان في قيادتهما مركب حياتهما، لسليمىالريشة المبلولة في جرن ماء المعمودية، قبب كنائس ونساء منذورات لله، ولابراهيم إلذي اكتشف، إلى شهرتهكمهندس للديكور، وبراعته في تصميم أثاثات للسكن،وحيين، لم تكن ساعتهما قد دقّت عالياً حتى الآن،النحت والشعر، ولأجلهما، قصدت محترفه، أتعرّف إلى فنّان، اختزل الشكل في منحوتة تجريدية، تكعيبية، والقصيدة بكلمات شاردة، على طريقة ” الهايكو” الشعر الياباني:
” أنا درست الرسم الكلاسيكي في طرابلس على فنان إيطالي الأخ فالانسيو، وحين أتى زمن التخصّص،اتجهت إلى هندسة الديكور، والديزاين، أفرش بيوت الناس وفي نفسي متعة لا توصف، تضاهي تأليف سمفونية، بتوازنات ألوانها والسلام الذي تبعثه في النفس.”.
– السلام، البارز في طبيعتك، لا سيما في التصاميم الهندسية التي تبتكرها، والأشكال النحتية الموزّعة على الرفوف، كيف يبقى صامداً، فاعلاً، وأنت تعارك القدر، في زمن يشهد فيها الوطن تراجعاً ملموساً على غير صعيد؟
” لا شك أنيبالتأملات التجاوزية، التي جاءت إلينا زمن الحرب، مع الدكتور طوني نادر، الرئيس الدولي لجامعات “فيدا- ماهاريشي”، روّضت نفسي وجسدي على قوانين هي ذاتها في الأدب ” الفيدي”، أساس بنية الكلمة والجملة والفصول والكتب.تمارين، وتركيز، علّمت كل من واظب عليها،على اكتشاف مخزون الطاقة والفطنة اللتين لاحدود لهما، في فيزيولوجية كل كائن. البرامج التي شرع يدرّبنا عليها، موثوق بها علمياً في ضبطها موارد هذا المخزون، والسماح للمتأمل أن يمتحن مصاعب الحياة بهناء في حياته اليومية. الدكتور طوني نادر وصل إلينا ونحن بأمس الحاجة إلى تعاليم مركّزة، هدفها دعم وظيفة كياننا وتوازنه.
– أتذكّر غاليري دامو، عائلة منشعراء ورسّامين ومفكّرين وصحافيين، لكل منهم دوره، أكان في معرض أم أمسية شعرية، أم دوزنات عود. هنا كانت متعة التلاقي مع لبنان ما زلنا نشتاقه. هل من بديل لغاليري دامو”؟
” وجدت نفسي بين الخشب. فما كان يبقى من فضلات أغصان وجذوع، بعد أن أكون لبّيت حاجاتي الهندسية، من أسرّة وطاولات وكراس، وصناديق، صرت أجد فيها ما يدعوني لممارسة ما لم يكن عبر في وعيي قبلاً. كنت كمخلوق جديد يختبر على قطع أخشاب صغيرة، سر الوجود، حتى إذا تمكّنت من التعبير عن فكرة، مضيت شيئاً فشيئاً إلى أشكال أكبر، وكأني في كل محاولة كنت أقوم بتدجين البريّة ومؤالفة أسرارها”.
– ماذا علّمتك الشجرة؟
” ما دامت مزروعة في الأرض، أراها تتفاعل مع السماء، تبكي إن بكت، وتضحك مع الربيع إن كستها بشموسها. إما إن ماتت فيحق للنحات أن ينعشها برمق حياة. هكذا بدأت خبرتي النحتية مع الخشب. بقطع صغيرة بدأت، كأن قوّة لا إرادية كانت تتدخّل في الشكل. إرتحت في تعاملي مع الخشب. صرت طبيباً معالجاً للسوس الذي ينخره و يأكل السمغ. مضيت إلى النقع في الماء، الطريقة القديمة. بعد أن ينشف في الهواء الطلق، يبدأ حواري مع عرق الشجر، دون تصميم سابق. الجوهر يكمن في السير في اتجاه العرق لا في عكسه، لقد وصلت إلى اقتناع بأن الخشب لم يعط حقّه بعد في لبنان. القلائل الذين اشتغلوه، تصرّفوا وكأنه حجراً”.
– بأي خشب تجد وحيك؟
” الخشب اللبناني هو الأجمل بين غابات العالم، الزيتون، عروقه على الشجرة آيات نحتية. الزنزلخت الذي راج في القرن التاسع عشر في صناعة الموبيليا. في زمننا هذا بات الخشب يصل إلينا من الخارج، سنديان وزان وجوز وتوت. والبلد بات متخما بالمفروشات”.
_ هل في النحت، هذه الأجسام التجريدية، التصويرية، وجدت السلام الذي تتوق إليه؟
” النحت، يختلف عن أثاثات المنزل.أنحت بإزميلي كمن أبحث في ذاتي. على خط مواز لعملي الهندسي، أستلهم من إمكانياتي، أكانت شعراً أم شكلاً للخروج من النفق الذي نحن فيه. عملي بالديزاين، أقوّيه وأنعشه بآياتي النحتية. هكذا وجدت حالي بالنحت دون تصميم سابق. أشياء تولد بين أصابعي لم أكن أتصوّرها. بلا روح وإلهام من الصعب التفوّق على السلبيات المحيطة بنا”.
– ودخل الشعر في كيانك، هل من مقارنة بين الخشبة والكلمة؟
” حين تنتهي المنحوتة، يغدو من السهل مقارنتها بالشعر. عمل متكامل واحد. الكتابة روح تتحرّك من داخلنا، مع الخشب الشعور ذاته. هي قصّة توازن، باختباري التأملات التجاوزية، حرّرتني من الطاقة السلبية، ودفعت بي نحو الخلق المتكامل”.
– منك الشعر ومن سليمى الرسم. ماذا تقول قصيدة ” يا غابتي المسكونة/ إطفئي الليل/ القمر يرقد/ والشمس حزينة”
” نحن بتنا في خريف العمر، نمهّد للخروج إلى المدى، الأخشاب واقفة وقفة الحياة، لا موت، لا مدافن. لها في نموّها ذاكرة وفي العروق نغم ، يكوّن الشكل إلى الصيرورة. سليمى لم تعد الشخص الآخر، هي أنا”.
****
(*) جريدة النهار 8 سبتمبر 2018.