لم يُقِمِ الأخطلُ حوائطَ صَدٍّ ليمنعَ لوثَةَ الحبِّ من بَرْيِ قلبِه، فأقامَ مع الغزَلِ في عنوانٍ واحد.
المرأةُ معه في مسرحِ القصيدةِ عِبء، ليس لأنّه من غيرِ اليسيرِ أن تُدفَعَ الى العُبورِ من البرودةِ والصَدِّ والتمنُّعِ الى حالِ التَّرقيقِ والأنثى، بل لأنّها ترفضُ في المُطلَقِ تَزهيدَ قيمتِها بأن ينفردَ الرّجلُ بوكالتِها الحَصريّة. لذا تُلقى على الشّاعرِ مَهمّة، برعَ فيها الأقلّون، وهي ضَخُّ المَزاجِ العاطفيِّ في قرارِ التَبَدُّلِ من دونِ المَساسِ بخَيارِ الكرامة، ليعلِّمَ جفنُها عن حقٍّ فِعلَ الغَزَل .
يقطفُ الأخطلُ أغانيَه من جنائنِ السِّحرِ المُعلَّقة، ولا يَنجَرُّ خلفَ صُنوفِ الرّموزِ وكأنّه
حبيبٌ في المَنفى، ولا يَتربَّعُ وراءَ جِدارِ الصُّعوبةِ ليَخفيَ هَواه، بل هو يَمشي على بَرَكةِ الواقعيّة، وإن تَكُنْ شَيّقَةً أو شَقِيَّة، في بَساطةٍ يتخلّلُها جَمالٌ مَرسولٌ بحيثيّاتِ الحبّ، فتَغدوَ
القصيدةُ بذلك قَيِّمةً، فقط، لوجود الغزَل فيها، أو قُلْ لِتَمَكُّنِ الشّعورِ من الشِّعر .
الأخطلُ حائِكُ الهوى، لا يَتعَفّفُ عن نَسْجِ العاطفةِ في قصيدة، هذه التي لم تكن معه أبداً طَلَلِيّةً مَمزوجةً بِغَزَل . فالغزلُ معه قضيّةٌ يُناضَلُ لأجلِها، وقصائدُه ليست غَزَليّاتٍ مُترَفَةٍ تائِهة، بل هي جُرحٌ غَيرُ مُكتَمِلِ النَزّ. وهي لم تَمُتْ مع الأخطلِ في عمرٍ صغير، فهو ربّاها على يَديه بَعثةً راقِيةً من بَعثاتِ الرّوحِ الى دُنيَواتِ الجَمال، فَليس عَيباً أن يُؤَدِّيَ الوافِدون الى رِحابِها فريضةَ الحجِّ الى الإبداع .
الأخطلُ لم يعشَقْ على عَجَلٍ قبلَ أن يُهيِّءَ الجوَّ ونفسَه. لقد جَرَّ التشكّيَ من دون أنينٍ لِيَنتَكِسَ في اللّقاء، وبَرَّدَ ألوانَ القَلَقِ المُتَسَرِّبِ الى المنطقةِ الضعيفة، منطقةِ العواطف، ولم يغسلْ بالدّمعِ وجهَ القمرِ ليبقى القمرُ معه عابِساً. وهو لم يؤجِّلْ أَلَمَ الفِراقِ ليبعِدَ عنه هذهِ الكأس، فهو يعرفُ تماماً مواقيتَ الهجومِ والانسحاب . من هنا لم تكنْ لوحاتُه من طِرازٍ إبداعيٍّ واحد، فتَحَيُّرُها موقفٌ جَماليٌّ سَديد.
لم يُزهِدِ الأخطلُ في الصّورةِ فبينَهما إلفَةٌ لا تتكرَّر، هيَ ليسَت في شِعرِه مجموعةَ إقلاعاتٍ بقدْرِ ما هي تحليقٌ مستمِرٌّ بِتَتَابُع، وكأنّه لم يُقَدَّرْ لنا معه إلاّ أن نرى الأرضَ من فوق . وصورةُ الأخطلِ دائماً في حركة، من دون أن تكونَ ماجِنةً ولا إحصائيّة، فلا زاويةَ لها، بالرّغم من كونِها مَشحونةً بالانفعالِ أساسِ بنائِها . وأهميّتُها في أنّها ليست تعبيراً بقدْرِ ما هي اتّحادٌ بشعورٍ مُرتَبِطٍ سرّاً بقرارِ خروجِه الى الضّوء، فلا يمكنُ تَصَوُّرُهما مُستقِلَّين، لذلك لا تنوبُ الصّورةُ عن الشّعورِ إلاّ بالأَصالة، لأنّه عندما يُنجَزُ الشّعورُ تُنجَزُ الصّورةُ عَفواً، فلو مَرَّ
سيفٌ بينَهما لم نَكُنْ نَعْلَمُ أَيَّ دَمٍ سَفَك .
أمّا الموسيقى، وهي ليست عِلماً في قصائدِه، فقد صَبَّت في خِزانتِه كلَّ رصيدِها، وزالَتِ القيودُ بينها وبين الكلمةِ التي ارتاحَت لِنَشْطِ إيقاعِها، فَتَمَّ الإعلانُ عن نظامِ تَشابُكٍ غيرِ مَسبوقٍ إذ ولأوّلِ مرّةٍ تأخذُ الكلمةُ الموسيقى بِرِفْق، ربّما لأنّها حقّقَت مطلبَها. أمّا الاحتفاليّةُ فتَنعَقِدُ في لَمَساتِ تحويلِ الصّورةِ الى صوت، من دونِ حواظِر، ليتركَّبَ بينهما عِشقٌ فيه شيءٌ من التّقوى لا تتبدّلُ عواطفُه، فيستقرَّ النَّغَمُ على حُبٍّ ولا يَمضي عنه الى حُبٍّ جديد. والموسيقى ليست بَذْخاً في القصيدةِ ” الأخطَليّة ” بل هي خيطٌ أصْلِيٌّ في نسيجِها، أو جزءٌ من وجودِها، لذا فالوَتَرُ مع الأخطلِ في تَوَتُّر، يُخشى ألاّ يكونَ مشدوداً كِفايةً، فيَنشَزَ مُضَيِّعاً ” السَّلطنة”.
أيُّها الزّائرُ الدائمُ لِخَلجاتِ الحُبّ، يا عباءةَ الغَزَل، وأنتَ المُمَتِّعُ من دونِ شَهوة، ليسَ غريباً
أن يبايعوكَ بإمارةِ الشِّعر، فوحدَها ما ضاعَتْ من يديك . أيُّها الأخطل، بأبي أنتَ وأمّي،” إنّ
في وجهِهِمْ نَظَر”.