”شارة جديدة للنصر” للدكتور علي حجازي… أقاصيص مستقاة من مقاومة البسطاء

    

منذ أن استوى البشريُّ إنسانًا، ووُهِب نعمةَ العقل. وقرأ الأسماءَ كلَّها، بدأت رحلة بحثه المضني عن المعنى، معنى الحياة والموت، ومعنى العمل ومعنى الخلود، وعلاقة الأرض بالسّماء، فمعنى الكرامة وما توجبه من نضالٍ وجهاد…

وفي ليلة من اللّيالي العشر بعد الألف، التقى بجنيّةٍ من جنيّات وادي عبقر. فاستلهم منها الكلام، وروّضه وصقله فاستوى أديبًا: شاعرًا أو كاتبًا بلغة الشّعر. يؤرّقه القلق، ويؤرّقه العثور على معنى الحياة، وافترس القلقُ لحظات حياته في النّوم واليقظة، والمعنى ينزلق من بين الأصابع، ومن بين الحنايا ولا يريم…

وفي يومٍ كيومنا هذا، وفي لحظة كالّتي نعيش اليوم، روّض إمامُ الشعراء (أبو الطّيّب) وسيّدُهم الكلمات، وامتطاها فلم تتحوّل بُراقًا بل ريحًا قلقة يوجّهها يمينًا أو شمالًا في أنحاء ممالك القهر المشتَّتة المحكومة بالخِصيان وأشباههم، الخانعين المنتظرين مجيء المغول من صوب، والصّليبيّين من صوبٍ آخر، ليتبارَوا في سفح الكرامات على أعتابهم. قبل هذا الانهيار النّهائيّ الّذي رافقهم من بعد ألف عام ونيّف.

وحده سيف الدّولة في بقعةٍ من بقاع الشّام، حاول أن يعطي للحياة معنى بالسّيف، وأعطى لأبي الطيّب المعنى الّذي تجسّد في كلماته: معنى البطولة وجهاد العدوّ وحدَه منفردًا، والآخرون نائمين أو مهادنين؛ لكنّ المعاني عادت وانزلقت هاربةً إلّا في لحظات معدودة على الأصابع، لو لم يسجّلها الشّعراء والأدباء لما عرَفناها.

وتصرّم الزّمن بعد ذلك، وتعثّرت رحلة البحث عن المعنى ، والتّأريخ منذ ألفٍ ونيّف يَشهد خيباتٍ لا تُحصى، ومصابيح معدودة على الأصابع تُضيء العتمات للحظات ثمّ تغادر، وفي الشّام أيضًا، وجبل عاملة جزءٌ منها، أنارت مصابيح معدودة زاويةً من زوايا الإمبراطوريّة الّتي تتخبّط في العتمة.

وها هو بعد مخاضٍ عسير – كما هو دأبه – يُعيد الأمل بالسّيف، لحاملي الكلمات ذات المعنى، بعد أن خابت آمالهم، واعتكرت مشاربهم، نهض أبناء جبل عامل وخضّوا بحرة الحياة الرّاكدة مياهها ونظّفوها من الأسماك الميْتة، والحيتان المنتفخة هواءً، وغرسوا نبتات الأمل في المياه الرّاكدة.

لكنّ عبيد الدّرهم والدّينار، اللّاهثين وراء السيّارات الفارهة، ودلّ الغانيات، أنكروا عليهم ما فعلوه، لأنّهم أفقدوهم الأوسمة القادمة من بلاد العم سام، ومن الصّهاينة ويهود الدّونمة ويهود خيبر…

لذلك امتشق الأُدباء والشّعراء كلماتهم، لتخليد فعل الانتصار على الموت وعلى الذّلّ والخنوع، كلٌّ بطريقته وأسلوبه، وانتقى د. عليّ حجازيّ الأقصوصة، وسيلةً لتخليد الحدث، لتخليد انتصار فقراء جبل عامل على اسرائيل، الأشدّ عتوًّا من روم سيف الدّولة ومغول بيبرس، مستلهمين انتصاراتهم من قبلُ على بني عثمان وعلى الفرنسيّين…

منذ أن عرَف عليّ حجازيّ نفسه، وعرَف أنّ الله عزّ وجلّ منحه موهبة القصّ، سخّر كلماته لحبك أقاصيص تحكي فعل انتصار رجال”جبل عامل” ونسائه وأطفاله على نوازعهم، فانتصروا على أعتى عدوّ تنصّل من مواجهته كلّ أقاربهم من العرب، أمّا الأعراب الأشدّ كفرًا ونفاقًا فعاونوه عليهم..

هذه المجموعة القصصيّة كأخواتها الأكبر سنًّا منها، تؤرّخ لشعبٍ عظيم يعيش في جزيرة صغيرة في بحر العرب المتلاطِمةِ أمواجُه.

أرَّخ مؤلّفُها لمقاومة البسطاء رجالًا ونساءً وأطفالًا في جبل عامل، الّذين ساهموا قدر استطاعتهم أو فوق ما يستطيعون في العمل المقاوم واصطياد الخنازير من حقولهم بفنجان صغير من القهوّة المسمّمة…

هذه الأقاصيص مؤرّخة وليست تاريخًا، كأنّي بصاحبها يتجوّل في الأزقّة والحواري، يسمع عبارةً أو قصّةً فيحوّلها أقصوصةً فنّيّة مكتملة العناصر، يتحرّك شخوصها في هذه البقعة المسمّاة جبل عاملة، بين المنازل المدمّرة وأشجار الزّيتون والكروم، والآبار.

كأنّي به “أبو ذرّ” آخر متجوّلًا في أنحاء القرى المحتلّة مبشِّرًا ومبشَّرًا باليوم الموعود، نصرًا لا تعدله كلّ الأموال الملطّخة سُخامًا أسود… كلّ بطلٍ من أبطال قصصه يمثّل جيلًا بأكمله، وكلّ امرأةٍ تمثّل نساء الجنوب كلّهنّ، الشّهيدات وأمّهات الشّهداء الصّابرات المحتسبات الّتي تطلب أن يقرضها أحدهم درهمًا صبرًا، أو الّتي تقول بلهجتها الشّديدة الإِمالة تحرَّرنا(تحرّرني)، فتصبح بقلمه أمثولةً تُحتذى.

في حين استخدم آخرون العِبارة للسُّخرية من فقراء الجنوب الّذين تُركوا ” يقلّعون أشواكهم بأيديهم”، أو أولئك المحبطون الذين ناموا وقاموا على عبارة” العين لا تقاوم المخرز”، لكنّ العين اليقظة لأبطال جبل عاملة لا يدخلها المخرز الّذي دخل عيون المتهاونين. لم يترك أهل الجنوب بيوتهم لتصبح غرناطة أخرى أو حيفا أخرى..

تحيّة للدكتور عليّ حجازيّ من كلّ الأجيال القادمة الّتي ستقرأ هذه القصص، فتعرف ماذا جرى في هذه البقعة من بلاد الشّام، في تلك اللّحظة التاريخيّة الّتي لم ولن تتكرّر في التواريخ القديمة والحديثة.

***

(*) مقدمة الكتاب.   

اترك رد