متى٢٤-٢٣-٣٠
يحذِّرنا المسيح من الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة الذين يأتون بالخوارق التي تشبه السحر والشعوذة من أجل تضليل الناس، موضحًا أنَّ مجيء المسيح الثاني سوف يكون كالبرق يلمع من الشرق الى الغرب، ولا يخفى على أحد. ونتأمَّل اليوم بما يلي:
1- تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تتساقط.
أوَّلاَ من الطبيعي جدًّا أن لا يعطي القمر ضوءه حين تظلم الشمس. ولكنَّ المقصود أبعد من ذلك. هذه الأرض حيث البشر يعيشون، محكومة بالزمان والمكان، والزمان مرتبط بالحركة، والحركة هي من ثوابت الوجود كلِّه، فالأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، والشمس تسبح في الفضاء، والمجرَّات تسير في فضاء الكون الواسع. وما الزمان على الأرض إلاَّ نتيجة للدوران. وما اليوم إلاَّ شروق وغروب، وما العمر إلا تعداد للسنوات التي هي بدورها نتيجة لدوران الأرض حول الشمس. وهكذا محكوم على الانسان أن يعيش في هذا العالم مرتبطًا وجوديًّا بالزمان والمكان، فما من عملٍ نقوم به إلاَّ ويكون في وقت محدَّد وفي مكان محدَّد. متى وأين هما السوآلان الملازمان لسلوكنا.
لذلك حين تأتي الساعة ونتحوَّل من هذا العالم الى العالم الآتي، نخرج من إطار الزمان والمكان. ولا نعود بحاجة الى دوران الأرض والكواكب، ولا إلى الشمس والقمر لحكم الليل والنهار. فتتساقط كلُّها، ليس لأنَّ الله أراد خرابها، بل لأنَّها لا تعود تفي بنظام الحياة في الملكوت، حيث الله شمسنا وقمرنا. وزماننا يختلف عن زمن الأرض، لأنَّنا ندخل عالم الأبديَّة، حيث الوقت الذي نعرفه هنا، لا وجود له، فلا بداية ولا نهاية ولا شروق ولا غروب.
حين خلق الله الأرض وما عليها قال لنا الكتاب المقدَّس: وكان صباح وكان مساء يومٌ واحد، وهكذا في اليوم الثاني كان صباح وكان مساء، وما زالت المسألة حتى اليوم في صباح يكون ومساء يكون، الى أن تأتي النهاية فنخرج من هذا النظام.
2- بعد ضيق تلك الأيَّام.
ليس الضيق هنا ضربة من الله ورغبة منه في عذاب الناس نفسًا وجسدًا. إنَّما الضيق يأتي من القلق الذي يساور قلوبنا لأنَّنا نخرج من حالة في الوجود الى حالة أخرى. إنَّه كألم الولادة والمخاض. ليس مطلوبًا لذاته ولكنَّه وارد وممكن، أمَّا المطلوب فالنتيجة أي الفرح بالمولود الجديد. وهكذا تمامًا هو الضيق الذي نشعر به ساعة النزاع، ليس مطلوبًا لذاته، ولكنَّه الطريق الطبيعي لدخول العالم الآخر. وهنا ايضًا، ترجع الضيقات الى كون الانسان قد اعتاد نظامًا عامًّا ثابتًا، وقوانين طبيعيَّة تتحكَّم بكثير من سلوكه، فإذا حان الوقت ليُخْرَق النظام وتسقط القوانين الطبيعيَّة، يقلق الانسان لأنَّه لا يعرف نظام العالم الجديد الذي سيدخله. تمامًا كالسمكة التي تسبح في الماء ولا تعرف أنَّ فوق الماء عالمًا آخر له قوانينه ونظامه.
3- ابن الانسان آتٍ على السُحُب ليدين العالم.
يشير المسيح في هذه الآية الى ما ذُكر في الكتاب المقدَّس، العهد القديم، عن ابن الانسان الآتي على الغمام، وهي صور غارقة في عقل اليهود ولها مفهومها الخاص الذي يشير الى المسيح الدَّيان. وبذلك يكون المسيح قد خاطب العقل اليهودي كما خاطب الإيمان. وأراد إضافة الى ذلك أن يبيِّن أنَّ المسيح هو ديَّان الناس أجمعين وليس اليهود فقط. لذلك قال: تجمع الملائكة المختارين من الرياح الاربع ومن أقاصي السماوات الى أقاصيها. إشارة واضحة الى جميع الناس. أوَليس هو الذي افتدى الناس أجمعين حين حَمَل طبعهم وخطاياهم؟ لذلك هو الذي أعطى وهو الذي يحاسب.