كل شيء في حياتي الموسكوبية يبدو لى الآن – بعد كل هذه السنين – رائعاً وسعيداً، ولم ادرك أو يخطر ببالي آنذاك انني اعيش اجمل سنوات عمري. بل كنت أتذمر أحياناً من بعض مظاهر الحياة السوفيتية .
كنا ثلاثة طلاب ، جئنا من ثلاثة بلدان متباعدة ، ونسكن في غرفة واحدة ، متوسطة الحجم . أنا القادم من بلاد الرافدين، وديفيد الكاميروني ، وفيكتور الأوكراني . ثلاثة غرباء ، لهم طبائع مختلفة ، ومن ثقافات متباينة ، فرض عليهم العيش المشترك في غرفة ليس فيها سوى ثلاثة اسرّة مع كومودينو صغير الى جانب كل سرير ، وطاولة دائرية في الوسط ، يستعمل للمذاكرة والكتابة والأكل والشرب ، ودولاب واحد للملابس ، وإبريق واحد لتحضير الشاي ، ومصباح كهربائي عار يتدلى من نهاية سلك ، أشبه بالمشنوق .
وكان ينبغي أن يكون أحد الطلاب الثلاثة طالبا سوفيتيا وعضواً في منظمة الكومسومول ، والذي كان يتم اختياره بعناية فائقة من بين المتفوقين دراسياً ، والناشطين في المنظمة ، من اجل مساعدتنا نحن الطلبة الأجانب في تعلم اللغة الروسية ، حسب ادعاء عمادة الكلية. ولكننا كنا نعلم ان الغرض الأساسي من ذلك هو مراقبتنا باستمرار ، وليس مساعدتنا فقط على سرعة تعلم اللغة الروسية ، رغم أنه لم يكن هناك ما يستدعي المراقبة على الإطلاق . ولكن العقل الأيديولوجي المريض كان يرى في كل أجنبي شبح عدو ينبغي عدم التغافل عنه أبداً . وكان ثمة هدف آخر ، غير معلن ، هو تعزيزالروح الأممية ، والمباديء الاشتراكية في نفوس الطلاب الأجانب . ولكن السحر كان دائما ينقلب على الساحر ، فبدلا من تأثر الطالب الأجنبي بالنظام الاشتراكي، كان الطالب الروسي هو الذي يطّلع لاول مرة في حياته على حقائق الحياة خارج الاتحاد السوفيتي ، والتي لا تتحدث عنها الدعاية السوفيتية .
كان هناك مطبخ مشترك فيه عدة مواقد غازية ، ودورات مياه ومغاسل مزودة بالماء الحار في كل طابق. البنات في الطوابق العليا والطلاب في الطوابق الوسطى . وفي الطابق الأرضي كان هناك حمام عمومي – يوم للذكور ويوم للإناث طوال أيام الأسبوع – والبوفيت وادارة الدار والمخزن. كنا نخضع لنظام متبع في جميع دور الطلبة . كان علينا ، أن ننظف غرفنا بأنفسنا ، ونرجع الى الدار قبل الحادية عشرة مساءً . ولكن ديفيد لم يكن يتقيد بأية تعليمات ، لا يشاركنا في تنظيف الغرفة ، ولا يرتب فراشه حين يغادر الى الكلية . وأحياناً يأتي في ساعة متأخرة من الليل ،غاضباً من شيء ما ، أو مخمورا بصحبة صديقته، فتمنع المناوبة الفتاة من الدخول فينفجر ديفيد صارخاً بوجه المناوبة:
أنتم البيض عنصريون وتكرهوننا!
كنا أنا وزميلي الأوكراني نجامل ديفيد ، ونتعامل معه بلطف . والحق أن ديفيد كان إنساناً صادقاً – وأكاد أقول بريئاً – وطيب القلب رغم بعض مظاهر الطيش الشبابي في سلوكه ، فهو لا يكل ، ولا يمل من اتهام الكل بالعنصرية .ونحاول في كل مرة أن نطيّب خاطره .
أمّا فيكتور فقد كان شاباً مجداً وذكيا ، ومثالاُ في الدماثة واللباقة : يصحح لنا ألفاظنا الروسية ، اذا لم ننطقها على الوجه الصحيح ، أو يفسر لنا معاني بعض الكلمات النادرة في اللغة الروسية الجميلة ، الباذخة الثراء . ويبدو انه كان من اهل الريف ، فقد كان يتلقى في فصل الشتاء بين حين وآخر قطعة كبيرة من الشحم الأبيض ، يلفها في قماش من الكتان الأبيض ، ويخفيها تحت سريره داخل حقيبته الجلدية . وحين يعود من الكلية ، يقطع شريحة وردية من الشحم، ويأكلها مع الخبز الأسود ، ونادراُ ما يشرب الشاي . كنت حين أعود للغرفة مساءً ، أسأل فيكتور ان كان في الإبريق بقايا شاي؟
-نعم . شاي طازج من الأمس فقط !
ولكن فيكتور كان يتحول الى شخص آخر لا نعرفه ،عندما يجتمع في الغرفة مع عدد من أصدقائه ، ويحتفلون على طريقتهم . أي شرب الفودكا القوية من أرخص الأنواع مع مزة من مخلل الخيار. كان فيكتور المخمور يسألني :
-هل تحترمني ؟
-بالطبع يا صديقي
-اذن اشرب معي كأساً.
وكان الضجيج يتصاعد كلما شربوا كؤوسا جديدة من الفودكا ، ثم يرفعون عقيرتهم بالغناء . أغانٍ طلابية شائعة ، لا أحد يدري أسماء مؤلفيها أو ملحنيها . كان زملاؤنا السوفيت يرددون غالبا أغنية جميلة ، يزعم كل من الشاعرين اناتولي سوبوليف وبوريس كوزنيتسوف ، أن نصها يعود لهما . تقول الأغنية :
ظل الأكاسيا يغريني
للتنزه ولو للحظة
وأعرف أن الامتحان غداً
لكن قلبي ليس حجراً .
في هذه الليلة القمرية
يبدو ان الطالب سيموت
بسببك
أيتها الصبية الجميلة
الآن ليس وقت
هذا الفستان بشرائط ملونة
وكأنك خرجت للمداعبة
جئتِ من الحلم
وانا اتطلع اليك بحذر
لا تمشي بجانبي
ولا تسحرني بنظراتك الحانية
لا تقفي الآن حائلا
امام اصعب امتحان
لا ارجوك .
في هذه الليلة القمرية
يبدو ان الطالب سيموت
بسببك
أيتها الصبية الجميلة