يوسف رّقة فنَّانُ وفيلسوفُ ورّائي وشاعرُ ومتصوِّفُ

 في “33 صلاة في جوف الحوت”

    

أَيُّها السّادة،

أّحبَّة الكلمة، عُمتُم لقاءً؛

نحنُ جيلٌ درسَ التّاريخ طبعًا، ولكن رٌبَّما لم نتعلّم منه، بالرُّغم من كلِّ ما مرّ بنا ومعنا.

من الإهداءِ أبدأ، حضرة الصَّديق يوسف رقّة؛

موتُ الشّهيدِ إسعافًا، حرَّكَ قلمَكَ، ومجتمعٌ مُصِرٌ على بقاءٍ، ضخَّ الدَّمَ حبرًا ناصعًا في يراعِكَ: فانبعثَ مشاهدَ مسرحيّةٍ، دمغَ الورقَ بكلامٍ مُغرِقٍ إنسانيّةً ببعضِ مِمَّا فيكَ من إنسانيّةٍ طافحةٍ وفكرٍ مُتبصِّرٍ،تَؤم خزين إِبداعاته أَجيالٌ لتتذوَّق طعمَ الكرامةِ الوطنيّة، فيُمعنون إِمساكًا بهوِّياتِهم عن وعيٍ منهم.

لأَنَّهُ مُتخصِّصٌ في الإخراج المسرحي، جاءَ نصُّه مُرفقًا بسيناريو مُكتملٍ يقولُ للقارىء: جسِّدني.

بكلمةٍ، إنَّ يوسف رِّقة ما جرَّد قلَمَهُ سيفًا، إلاَّ إعلانًا للحقّ وإثباتًا للعدل،  وصونًا لكرامة إنسانٍ، حرِّيته، عطيَّةٌ من ربِّه وليست مِنّةً من عبدٍ، ليبخُسَهُ إيّاها، تِبعًا لأهوائِه وطِبقًا لطُغيان منازِعِه المَقيتَةِ…

أمّا بلمحةٍ خاطِفةٍ عن النّص المسرحي فأقولُ: إنَّ عباراتِ الحوارِ مًكثَّفةٌ، وللكثيرِ منها رمزيتُها ومراميها. هي بسيطةٌ مأنوسةٌ عن لسان النّاس قُطفَت ومن بين شفاههم التُقِطَت. غير أنّ الرّاوي، بِما أوتيَ من فنّ مُداعبة الرِّيشةِ إِبداعًا: جعل منها أَفراسًا وأحصنةً، يعدو بها خلفَ المُرادِ المَرجو من تسابُقِها على دروبِ السُّطورِ- الميدان، بقوائمَ ثابتةٍ لا تعدو “خبطَ عشواء”!

شخصياتُه، من صميمِ الحياةِ قُدَّتْ جسومُهُم، وبماءِ دماءِ الشَّهادةِ للحقِّ عُجِنَتْ لحومُهم، مَحروسينَ بدُعاءِ “الجَوشنِ”؛ يتلوه المُقاومون منهُم: حِرسًا لأنفُسِهِم، أمْ يتلوه النّاسُ عنهُم لشدّ أزرهم مُقاومين أبطالًا ميامين.

يوسف رقة وسليمان يوسف ابراهيم

ليس للإقامةِ “في جوفِ الحوت” بطولةٌ مُطلقةٌ أو تفرُّدٌ باجتراحِ الخوارقِ. فالمُجتمعُ بأسرِهِ بطلٌ هو.غيرَ أنَّ المُلفتُ في المسرحيّةِ، أنّ المرأةَ عندَ يوسف رّقة، لها الدّورُ الأساس في بناء المُجتمعِ وإعلاءِ مداميكه: خُلقيًّا، وطنيًّا، قكريُّا، وعلى كافّة الصُّعد الإنسانيّة… ففي شخصيّةِ “حنان” نلمحُ لا بَل نلمُسُ شخصيّةَ المرأةِ المُناضلةِ في أدوارِها كافّةً: أُمًّا، زوجةً، رقيقةَ نضالٍ، بروحٍ مُقاوِمَةٍ تحيا، وعلى ما هي عليه تُربِّي. المرأةُ المُثقّفة حاضرةٌ، المرأةُ الّتي تحيا على البركةِ وتسليمِ الأمرِ لله موجودةٌ، المرأةُ “قاطعةُ الطريق” نكتشفُها، المرأةُ اللاّهيةُ اللّعوبُ نَلْمَحُها، لهُنَّ جميعًا، في الحكاية موضعٌ ومرورٌ كذلك…ناهيكَ إلى امرأةِ الغدِ الّتي تُنشَّأُ على حبّ الوطن، المُجسَّدَةُ بالإبنة “زهرة”، حاضرةٌ هي أيضًا، كما أدهم أَخيها، المقاوم الجديد، حاضرٌ هو كذلك.

وللميتولوجيا في المسرحيّةِ مرورٌ لأكثرَ من مرّةٍ: ها علاءُ الدِّينِ يدخلُ على سيِّدةِ المكتبة، يُشاحنُها بأمرِ ضرورةِ إطلاقِ الماردِ من القُمقمِ…وهاكَ سيزيفُ بقدريّةِ إصرارِه يواجهُها مرّةً أُخرى. وحنانُ المجالسةُ لخيال الظِّل،الّذي يبثُّ ذهنَها بشُحُناتِ الأملِ بالغدِ،حيثُ نجدُها مُحاورةً نفسَها، مُصِرَّةً على الحياةِ، مُقاوِمَةً. بالرُّغم من كلِّ عتادِ الموتِ المُحيطِ بِها،فشمعتُها مُضاءَةٌ مُضاءَةٌ تفاؤلاً بالغدِ مصارِعَةً التّشاؤمَ مُناهضةً القنوطَ…والجميعُ، في المسرحيّةِ، حضورُهم هادفٌ: فلن يخلِّصَ أهلَ البلادِ من المُكوثِ في جوفِ الحوتِ إلاّ أعجوبةٌ. ولن يتحقَّقَ النَّصرُ لهُم وللوطن على أَعدائهما إلاّ بإِمعانٍ وإِصرارٍ على مواجهتِه ودحرِهِ.

ولفلسطينَ، أصلُ الحكايةِ، وجرحُها النّازفُ أبدًا، حضورٌ: هي الرّافضةُ على لسانِ الشّيخِ أيَّ تقسيمٍ أمْ شرذمةٍ، والّتي لا ترضى إلّا المكوثَ تحتَ رايةِ القُدسِ عاصمةً أبديّةً.

وصولاً إلى “نازحِ البصرة” الذي لم يشأْهُ الكاتبُ إلّأ على صورةِ غزالٍ: لا يزالُ يَعدُو خلف َ قطارِ الزّمنِ بحثًا عن هدوءٍ واستقرارٍ، هو الذي يجِدُ في الهُروبِ منَ المواجهةِ انتفاءً للإِستقرارِ المَرجو…

أمّا عن ذاكَ الصّليبِ الأحمرِ،المُستعدُّ أهلُه للتّضحيةِ والبذلِ عندَ كلِّ نازلةٍ، ماذا أَقول؟ وقد مُنِعَ مِرارًا وتَكرارًا من إنقاذِ حنانَ، بألفِ حجّةٍ واهيةٍ!حتى الإتصال من خلف بحارٍ وبحارٍ، لم يَشفَعْ لها… وأهلُ الإنقاذِ قد قُصفوا مِرارًا، منعًا لتأديةِ واجبٍ إنسانيّ!!

وظهورُ الرّاوي على خشبةِ المسرحِ، رابطًا ما بين الما قبل والما بعد من مشاهدِ المسرحيّةِ، مُختزلاً زمنَ الرّوايةِ، متمنطقًا بلبوس يتماشى وتقلّبَ مسارِ الأحداثِ، هو: الفنَّانُ، الفيلسوفُ، الرّائي، الشّاعرُ، المتصوِّفُ، المتعدِّدُ المواهبِ، الشّيخُ المُرشِدُ، المُصلحُ الإجتماعيُّ، الرّجلُ الوطنيُّ، الشِرِّيد، الدّاعي بتلاوةِ “صلاة الجَوشَن”، الواصفُ لحالِ النّاسِ والبلادِ بعدَ المعاركِ، المُصلّي المُستمطِرُ رحمةَ السّماءِ، معلنُ عودةَ الشَّعبِ إلى أرضه في ختامِ المسرحيّةِ.

باختصارٍ، إنَّ الرّبَ حمى يونانُ بإقامتِه ثلاثةَ أيّامٍ في جوفِ الحوتِ؛ إِيذانًا بحلولِ موعدِ القيامةِ الأبديّةِ. ويوسف رقّة، مشى دربَ المقاومةَ،فنًّا إِبداعيًّا، مع أهلها لثلاثةِ وثلاثينَ يومًا: لكلّ يومٍ منها جوشنُهُ، يتلوهُ من أجلِ قيامةِ وطنٍ ومواطنينَ!! فرحي، أنَّ صلاتَهُ، أَتَتْ مَقبُولةً مَسمُوعةً، ونهضَ لبنانُ وأَهلَهُ نهايةً، من بينِ براثنِ العدوِّ الطمَّاعِ الجَشِعِ…

أَسفي يوسف رِقَّة ، أنَّ “الخرنيت” الّذي قطعتَ رأسه في العام 1982، يومَ خرجتَ إلينا  مُخرجًا وكاتبًا مسرحيًّا من الجامعة اللّبنانيّة، بقيَ مُقيمًا بيننا، يخلِّف أَبناءً له ، إخوةً وأخواتٍ، نحنُ بحاجةٍ إلى ألف مُناضلٍ من وزنتكم، يطلَعون له عند كل فجر وتحت جنحِ كل عشيّةٍ ، علّ وطنًا يستريحُ ويهنأُ أهلُهُ بعد نضالٍ ومقاومةٍ؛كُتِبا عليهما العُمرَ بمُجملِه.

****

(*) دراسة جديدة قدمها الأديب سليمان يوسف إبراهيم حول “33 صلاة في جوف الحوت” للكاتب يوسف رقة، خلال أمسية “لقاء” في جونية في 20 يوليو 2018.

اترك رد