مردوك الشامي: أينما يكون المبدع فوطنه يكون المكان الذي يحتضن هذا النتاج

كرم “ملتقى المرأة الثقافي” مجموعة من الكتاب والشعراء والفنانيين العرب ، في احتفال أقيم بقاعة بلدية سن الفيل ، في حضور حشد من الشخصيات الأدبية والفنية والإعلامية.

وفي المناسبة ألقى الشاعر والإعلامي والناقد مردوك الشامي كلمة قال فيها:

على الصعيد الشخصي ، في علاقتي بها ، ثمة الكثير الكثير يقال..

أختزله بأنها معشوقتي الأبهى ، والأجمل ، وأنني يوم اقتربت منها عرفت نفسي أكثر ، ويوم عرفتها أدركت أنّ لكل شاعرٍ جناحين لا يكتشفهما إلا إذا كان على علاقة حميمة بامرأة استثنائية جدا، وجميلة جدا ، ومجنونة بلا حدود ، بامرأة من أسمائها الفرح والحزن والحرية ومن اسمائها أيضا بيروت. .

ليس ذنبنا نحن ولا ذنبها ولا ذنبكم أنتم ، أنها الملاذ ، والجزيرة ، والمعشوقة التي تقبل تعددَّ المحبين.. ترضعهم صغارا من صدرها المعشب بالسطوع ، وتضمهم كبارا إلى حضنها ، وهي تدرك أنهم لم يطرقوا بابها إلا لأنهم فقدوا أمهاتهم ، وصاروا يتامى يبحثون في عالم الجنيات عن امرأة من أرغفة وارز ورفرفات.

أحبّها كثيرون قبلي وقبلكم ، يا زملاءَ وزميلاتِ هذه الليلة ، أحبَّها يوسف الخال ، وعلى أوراق غواياتها كتب خميس شعر بحبر الحداثة وتشظياتها، وأحبها نزار قباني ، فكانت بالنسبة إليه ست الدنيا بلا منازع ، نزار السوري الذي لا تقبل أوراقُ اعتماد أي عاشق إلا إذا مهرها بإحدى قصائده الهائمات ، وأحبها محمود درويش الفلسطيني ، وعاش حربها وحصارها ، واطلقها في قصائده أنهار كوثر ونقاء، وأحبها الماغوط وكمال خير بك ، وغادة أحمد السمان ، وغادة فؤاد السمان ، وسعدي يوسف ، وأحلام مستغانمي ، وكتاب وشعراء ورسامون ومسرحيون وصحفيون ، حين شعروا أن أوطانهم تضيّق الخناق على أفئدتهم قصدوها باحثين عن الأمان ، فوقعوا في حبها ، وتعاملت معهم بكل عشق ووفاء..

ألا تعتقدون معي ، أن الابداع في كل تجلياته غير قابل للتصنيف والتجنيس، وجواز السفر الوحيد الذي يحمله هو القلب والنبض والانتماء إلى الضوء؟..

ألا تعتقدون معي ، أن الابداع هويته الانسان أينما يكون ، وأينما يكون المبدع فوطنه يكون نتاجه والمكان الذي يحتضن هذا النتاج.

ألم يبدع جبران خليل جبران خارج الوطن، وغدا مبدعا كونيا ، ومثلُه كل كتاب وشعراء المغتربات القسرية وغير القسرية.

ألا يقال أن كل نبي في وطنه مهان؟..

هذه المقولة الذي جعلها تتحقق .. أن كل مبدع أصيل ، اخترق حدود الجغرافيا ، ليلتزم بشرعية التراب ، كلنا ننتمي إلى كوكب التراب ، فإذا لم نساهم في رفده بالغلال وحبات القمح والورد والعرق ، لن ترتفع عاليا أشجار العناق ، ولن يعود إلى رشده الكوكب المهدد بالخراب والانقراض.

أنا شخصيا لي في هذا البلد قرابة الثلاثين عاما ، نصف عمري عشته هنا ، في لبنان ، وفي ثقافة لبنان وأدب لبنان وإعلام لبنان ، وأنا أتحدث هنا عن نصفي الناضج ، وأعرف أنني يوم أنطفىء ، لن أطالب بقبر لي سوى في هذا المكان ، لأنني ولدت وعشت فيه إبداعيا وإنسانيا ، بعيدا عن مسقط الرأس البعيد الملتبس.

وكلهم مثلي ، أنا أقل المكرمين الليلة شأناً ،من بين المدعوين إلى لقاء تكريمي يأتي من ملتقى المرأة الثقافي ، ومن رئيسته الشاعرة الصديقة منى مشون وهيئته الإدارية ، .. يأتي في زمن الخراب العربي في كل شيء ، يأتي بطاقة طمأنينة وسلام ، ليجعلنا نشعر أن هذا البلد وهو كذلك لا يفرق بين قلم وقلم ، وبين ريشة ووتر إلا بما يمنحه ذاك القلم وتلك الريشة والوتر من إبداع اصيل.

كلُّ إبداع لنا ، أقولُ وبكل ثقة هو إبداعٌ سوريٌّ وعراقي وكويتي وفلسطيني وهو إبداع لبناني كذلك ،بل هو إبداع لبناني أكثر، لأننا تنشقنا هذا الهواء الحر، ولأننا رفعنا عمارة قلوبنا بنبض القلوب المُحبّة ، ولأننا اشقاء في الغربة والجروح والوجع والأمل بعالم لا حدود فيه ولا عسسَ ولا مخبرين.

قد لا يحبنا الجميع ، وقد يهمس البعضُ أو يرفع الصوتَ ، لماذا تكرمونَ غرباء ووافدينَ ؟.. هذا الهمس مشروعٌ والصراخُ أيضا ..لكن ثمة من يحبنا ، وثمة من يرانا بعينِ المحب ، وثمة من يقف على حذرٍ يراقبنا بريبة !..

أقول بكل بساطة : المحبة في قياس النبض متفاوتة ، والكراهية متفاوتة أيضا ، الإخوة في البيت الواحد لا يجتمعون على موقف ، والناس في بلد واحد ، لا تتآلف قلوبهم على شعور جامع ، طبيعة الكائن البشري أنه كائن غيرُ ثابتٍ في كتاب المشاعر والأحاسيس ، ورغم ذلك لحظة يرى العصفور يشعر بالغبطة ، ولحظة يستنشق عبير الوردة ، يحس بالفرح..

لسنا عصافير محلقة ، ولا ورود ، وأيضا لسنا أشواكاً تمارس الجحود..

محترفو العطاء الإبداعي ، مجرد ضحايا أينما يكونون .. مجرد شهداء ينتظرون الدفن ..

في هذه الليلة نشعر بالكثير من الحياة .. شكرا بيروت ، شكرا يا كل لبنان ، شكرا بلدية سن الفيل ، شكرا منى مشون والمبدعات في ملتقى المرأة الثقافي ، شكرا أيها الحبر والوتر واللون ، ثمة أماكن في هذا العالم المضطرب لاتزال بخير.. ونحن نقف في أكثرها بياضا.

***

(*) المصدر: صفحة أخبار ونشاطات ثقافية.

 

 

اترك رد