“أثمن من العصافير “

  

ما قيمة ُ الزمن لو ْ لَمْ يحمل ْ لنا روح الأمكنة، قدرة التحوّل …  وفتنة الذكريات؟

أصبت ُ بلوثة الأدب وبجنون الشعر منذ ايّام دراستي الاولى، ولَم أشفَ بعد بالرغم من محاولات كثيرين من الأهل والمقرّبين، ولكني حفظت عن ظهر قلب معادلة العالم الفرنسي في الكيمياء أنطوان لا فوازيي ” Rien ne se crée,  rien ne se perd tout se transforme”!

لا يولد ُ أي شيء

لا يضيع اَي شيء

الكل ّ يتحوّل !”

بعد غياب قسري عن بيروت – لبنان، لا اعود كعودة الابن الضال لأنني حسب المعادلة السابقة لَمْ أولد من جديد ولَمْ أضيعْ بل تحوًّل الكلّ الى قناعات جديدة  فيها مزيج صعب من  بيروت السائح المستشرق (محمد علي شمس الدين)؛ بيروت الحب والاسم التاريخي (أدونيس)، بيروت الحياة الشوفينية (عباس بيضون)، بيروت البئر المهجورة (عبده وازن)، بيروت ست الدنيا ( نزار قباني).

من المفارقات أننا في بلدان العالم نبقى غرباء، رغم الحفل التقليدي الرسمي العالي المستوى الذي تدعو اليه الحكومات المضيفة بمناسبة منحها الجنسية للمهاجرين الجدد،  بينما سرعان ما يصبح  الغريب في بيروت – لبنان مواطناً وأخاً وصديقًا

في خضمّ الضؤضاء الكلامي السياسي والخطابات والفصاحة والوعظ والإرشاد والحكمة، أرى اليوم من خلال غربتي القريبة الى حدّ اللافصل واللاجزم، أن ّ لبنان الصغير والأصغر بين أشقائه دفع أغلى الاثمان نرجوها أن تساهم في جلاء واقع العلاقة بين  الوطن وأبنائه. نحن لبنانيو الخارج حغرافياً لسنا غرباء عنه، لا بل نستشف من البعيد جمال صورته وسطوة حضوره، لذلك بحق هذه المعرفة نقف متيقظين علّنا نـحسنُ الرؤيا ماضياً حاضراً ومستقبلاً خارج التوهمات الرومانسية واللبننة البلاغية .

منّا من قتل بالرصاص ومن قُتل بالهجرة أو  بالإهمال، ومع ذلك ما كتبناه وسنكتبه هو لغة وطن مازال يولد ويضيع ويتحول، والذي، بالرغم من الكم ّ الهائل من الحوارات التي تحمل لهجات النقد والهجاء والذّم والشتيمة والتحقير والنبذ والانشقاقات والتصدعات والألفاظ المشحونة بالامل، ما زلنا نحن لبنانيو الخارج نحاول النهوض بوطن الأم والاجداد. نطمئنكم أنّ ثقافة لبنان الخارج السائدة ليست ثقافة فلكلورية، لا بَلْ عصارة ما نفذ ونجا من بؤرة النزاعات والمراوغة والالتباس والتفتت والغموض ومجتمع الطوائف والتبعية.

غلاف الكتاب

في لبنان الماضي عشنا هذا الـ لبنان الثقافة والفكر والمنتديات وليس حصرياً لبنان الحجر والمعالم السياحية . ما حملناه من لبناننا الماضي نعيده إليكم قبل ان يفوت الأوان ويُسرق منّا ما حسبه الآخرون مسروقاً سلفاً! هذه عطيّتنا وهذه وزناتنا نقدمها إليكم  دون منّة ونرجو ان تحفظوها بعناية فائقة كي لا تطنّ فارغة وتصطدم بفضاء الواقع الآني.

سؤال يتداوله كثيرون:” لماذا ينجح اللبناني في الخارج؟ برأي الأكثرية، يحصل هذا التفوق بفعل شروط بنية الخارج ومؤسساته وحكوماته وَلَمْ يحصلْ بفعل الداخل اللبناني . قد تكون المؤسسات والحكومات ساهمت في هذا التفوق ولكن لا يسعني ان أنكر فضل الشّعل الثقافية الخلاقة. لو تعرفون كم صعبة الغربة لولا صوت فيروز، لولا جورج شحادة ، يوسف الخال، فؤاد غبريال نفاع، سعيد تقي الدين ، عبد الله العلايلي ، حنان الشيخ، ميّ المرّ ، غادة السمّان ، ميّ منسّى ، انسي الحاج ، وغيرهم…

لم ْنفقد الأمل بعد لاستخلاص العبر والدروس ورؤية المستقبل لأننا متى التقينا بين الداخل والخارج لنْ نقبل بما يشوّه صورة لبنان مهما طال الزمن ومهما خفتتْ شعلة الشوق والامل.

هذه هديتي الكبيرة من قلبي الصغير …

هذه أرغفتي الخمسة والسمكتين علّها تجدُ  صدى في قلوبكم فحيثُ يكون قلبكم يكون كنزكم ولَم يكن يوماً قلبنا إلاّ معكم.

اهدي كتابي وطنياً الى كل الذين سقطوا في ساحات القتال والمعارك من  أبناء الوطن الواحد،

الى كل الذين غيّبهم الموت وهم أبرياء شرفاء، هؤلاء الذين غابوا ولَم ْ تُرفع لهم القبعات وَلَمْ تنحنِ لهم الرؤوس اكراماً لشهادتهم ولَم تصدح لهم الحناجر بأناشيد العزة والكرامة.

مدنيّون عزّل لا حول ولا قوة لهم … علّ تحيتي هذه المتواضعة تعيد اليهم ولوْ القليل القليل من عرفان الجميل لَوْ جاء متأخراً.. فالوطن الذي لا يحترم شهداءه لن يقدّر يوماً من ما زالوا على قيد الحَيَاة.

ختاماً لا يسعني إلاّ أن ْ أختم كلمتي بقول للصحافي روبرت فيسك/ مراسل صحيفة الاندبندنت البريطانية –  الذي عاش في لبنان اكثر من ثلاثين عاماً وما زال يسكن في بيروت:” إنّ الشعب الذي ينتقم من وطنه لأن ّحكومته سيئة لا يستحق حكومةً أفضل!”.

***

(*) القيت في الندوة حول كتاب “اثمن من العصافير” (شعر منثور) لشادية الحاج في قاعة المحاضرات في بلدية سدّ البوشرية، شارك فيها رئيس بلدية سدّ البوشرية الشاعر أتطوان جبارة، سفير لبنان في أستراليا ميلاد رعد، المؤرخ الدكتور طوني ضو، الشاعرة ربى سابا حبيب، الدكتور جان جبور، الأديبة مي سمعان، النائب بوليت يعقوبيان.

قدمت الاحتفال الأديبة جانيت بدران سمعان، مرافقة موسيقية ومعزوفات الأب الفنان التشكيلي جان جبور.

اترك رد