سيرة صاحب العشرين ألف بيت!

شاعر الفيحاء سابا زريق

الشاعر سابا زريق (الجد) والدكتور سابا زريق (الحفيد)

شاعر الفيحاء (1886-1974)، هو سابا بن قيصر بن ميخائيل زريق، تتحدر عائلته من العرب القحطانيين الأوائل الذين نزحوا الى حوران في سوريا، ثم الى طرابلس حيث توطن جدهم الأكبر منذ عدة قرون. ولد شاعرنا في طرابلس عام 1886. وكان والده قيصر بن ميخائيل زريق، بعد  نيله شهادته من الآستانة، الصيدلي القانوني الوحيد من حدود اللاذقية حتى جونيه.

رسم متخيّل: أمام قلعة سان جيل (صنجيل) في طرابلس

يذكر أن “قحطان”، وتسمى أيضاً بالعرب العاربة، هي إحدى القبائل الواقعة في منطقتيْ وسط وجنوب شبه الجزيرة العربية، وتمتد من خليج عمان إلى نهر الفرات في الجهة الشرقية، إلى المحيط الأطلسي في الجهة الغربية، كما تمتد من الإسكندرونة والجهة العلوية من نهر الفرات في الجهة الشمالية، إلى خليج عدن في الجهة الجنوبية.

دروسه وموهبته الشعرية

تلقى سابا زريق دروسه في مدارس طرابلس الابتدائية؛ثم التحق بالمدرسة الوطنية  الارثوذكسية التي كانت تسمى “المدرسة الروسية” في عام 1895، وحصّلمنها الشهادة العليا.درس العربية بفروعها ومبادئ الفرنسية والانكليزية والروسية، فضلاً عن الهندسة ومسك الدفاتر والتاريخ… والعلوم الدينية.

تكشّفت موهبته الشعرية وهو في الرابعة عشرة من عمره، فكان يلهج بالشعر لهج الحَمام بهديله، ويلقي بما يوحي به ملاك شعره على مسامع المثلث الرحمات البطريرك غريغوريوس حداد، يوم كان مطراناً في طرابلس، فكان يشجعه على متابعة النظم.وما إن ناهز السابعةَعشرةَ حتى راح يلقي قصائده في الاحتفالات الرسمية الكبرى وغير الرسمية، وعلى منابر المساجد والبِيَع، وفي أندية الأدب والسياسة.

وكان من أوسع مجالات شاعرنا، بعد سقوط السلطان عبد الحميد، “النادي العثماني الاتحادي”، فقد ألقى فيه قصائد تنضح بعبير الحرية، وبالتغنّي بالقومية العربية.

نُشرت قصائده آنذاك في مجلتَي “المباحث” و”الأجيال” وجريدة “الوجدان”. وقد رافق نشأة الشاعر في ذلك العهد وجودُ ثلاثِ صحف؛ علمًا أنّه أسهم في تحرير “البرهان” لصاحبها سماحة العلامة المرحوم الشيخ عبد القادر المغربي، وكذلك في تحرير “الأجيال” إلىجانب الكاتب المرحوم توفيق اليازجي.

“جمعية النهضة الأدبية”

حين كان الجمود الأدبي مخيماً على طرابلس أنشأ سابا زريق، بإذن من السلطة العثمانية، جمعية أدبية برئاسته، تحمل اسم “جمعية النهضة الأدبية”. وقد ظلت هذه الجمعية قائمة عامين تقريباً، ثم انطوت صفحتها لأسباب ربما كانت سياسية.

ترك الشاعر طرابلس إلى الولايات المتحدة عام 1903، غير أنه لم يمكث فيها سوى ثمانية أشهر، عاد بعدها إلى لبنان. وعقب عودته أجمعت الصحف الآنفة الذكر على منحه لقب “أديب البلدة”. وما هي إلا ثلاث سنوات، واكبت أواخر العهد العثماني، حتى منحتهتلك الصحف لقب “شاعر الفيحاء”.

وما إن أطلّ عهد الاستقلال، وانحلّت في أوائله القرائح من عُقُلِها بعض الشيء، حتى جاش ميدان الشعر والأدب برجاله؛ فكان لشاعر الفيحاء القسط الأوفى من الخوض فيه، مساهماً في النهضة الأدبية والوطنية. وقد تولّى رئاسة تحرير جريدة “الحوادث” طيلة خمسة عشر عاماً.

كما لعب شاعرنا دوراً اجتماعيّاً بحكم اتساع صلاته برجالات المدينة، على تعدّد سياساتهم واتجاهاتهم، واستطاع أن يكون رسول سلام بين مختلف الشخصيات والنـزعات.

المعلِّم

عُيّن مديراً  للدروس العربية في معهد الفرير، كما شغل منصب مدير مدرسة الصبيان الرسمية في طرابلس طيلة ستة وثلاثين عاماً، يوم لم يكن في طرابلس آنذاك الا مدرستان للصبيان واثنتان للبنات. وانتهى به المطاف أخيراً مديراً للمدرسة الثانوية الرسمية، ثم أحيل على التقاعد استجابة لطلبه، برتبة مفتش في التعليم.

في معهد الفرير

أمّا على صعيد طائفته، فقد شغل عضوية المجلس الملّي الارثوذكسي ثلاث مرات في عهد صاحبَي الغبطة المثلثَي الرحمات ألكسندروس طحان وتيودوسيوس أبو رجيلي قبل ارتقائهما السدّة البطريركيّة.

كما شغل منصب نائب رئيس بلدية طرابلس طيلة ثمانية أعوام.

شاعر العشرين ألف بيت

وقد أربى ما أنتجته قريحته على العشرين ألف بيت في سائر فنون الشعر، وله مقالات ومداخلات نثرية عديدة.

ترجم روايتين من الانكليزية الى العربية: «الشبه الهائل» – و«عصابة سيمونسن»: وهما من تأليف وليم لي كي، طُبعتا قبل الحرب العالمية الأولى، في طرابلس.

من ميزات سابا زريق أنه كان ينظم قصائده حتى المطوَّلة منها من دون أن يخطّحرفاً على الورق، فيغيّر ويبدّل في أبياتها وهي في ذاكرته. وكثيراً ما يلقيها قبل كتابتها، فإذا أثبتها على الورق امّحت من ذاكرته تدريجاً حتى يكاد ينساها.

شاعر المناسبات الاجتماعية والوطنية والقومية، يتوسط إنتاجه – زمنيًا – مرحلة التجديد والتجريب، جمع في شعره بين القديم والجديد، مع ميل إلى الواقعية منهجًا في الحياة والفن، فللقصيدة عنده عنوان، وفيها وحدة موضوعية، كما أن فيها استقلال البيت، والتزام الوزن والقافية، وقرب المعنى، مع درجة من التقريرية والخطابية، وقدرة على الاسترسال واجتلاب القوافي المناسبة.

شاعر الفيحاء

يوبيله الذهبي

أقيم له حفل يوبيل ذهبي في التاسع من حزيران 1968، بحضور دولة الرئيس الشهيد رشيد كرامي الذي قلّده، باسم فخامة الرئيس شارل حلو، وسام الأرز الوطني من رتبة فارس.

حين علت به السن، قرر شاعر الفيحاء أن يمسك عن إلقاء قصائده في المناسبات، فكان يكلف سواه إلقاءَها باسمه، وأبرزهم حفيده، د. سابا قيصر زريق.

تُوُفِّيَ شاعر الفيحاء في 16 آب 1974 عن ثمانية وثمانين عاماً إثر عملية جراحيةٍ، وشُيِّعَ بمأتم مهيب رسمي وشعبي ضم وفوداً من مختلف الأنحاء  اللبنانية. وقد منحه رئيس الجمهورية آنذاك، سليمان بك فرنجية، وسام الاستحقاق تخليداً لذكراه بعد الوفاة. وكان لوفاته صدًى حزينٌ في لبنان والعالم العربي، وقد رثته وسائل الاعلام على اختلافها.

في 11 حزيران 1981، أقر مجلس بلدية طرابلس إطلاق اسم شاعر الفيحاء، المرحوم سابا زريق، على الشارع الممتد من شارع عبد القادر المنلا حتى حدود طرابلس-الميناء.

كما قررت وزارة التربية والتعليم العالي، في 2 نيسان 2004، تعديل تسمية “ثانوية طرابلس الميناء الرسمية للبنين” لتصبح “ثانوية المربي سابا زريق الرسمية للبنين”.

كذلك أطلقت بلدية جدة في المملكة العربية السعودية اسمه على شارع في المدينة (شارع رقم 47 في حي النزهة/3)

الآثار الكاملة

تطرّقَ كُثر الى أدب شاعر الفيحاء، فعالجوه في دراسات وأطروحات وندوات ومقالات صحفية.

في سنة  2013 صدرت “الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق”، من إعداد حفيده د. سابا قيصر زريق، وقد نالت استحساناً في الاوساط الفكرية والثقافية عموماً والطرابلسية خصوصاً؛ وتداعت منتديات اجتماعية وثقافية الى عقد  ندوة حولها في 20 نيسان 2013، كان الحضور الحاشد فيها لافتاً ومميزاً.

* * *

 

اترك رد