١٠ مرقص
نتأمَّل في هذا الأحد المبارك بموقف ابني زبدى يعقوب ويوحنَّا وهما تلميذان اختارهما المسيح ليكونا من بين الاثني عشر رسولاً، ونقف خاصَّة عند أمرين:
1- نريد أن تصنع لنا كلَّ ما نسألك
لم يصل بعد ابنا زبدى الى فهم رسالتهما حقَّ الفهم، كما أَنَّهما لم يصلا بعد الى فهم حقيقة المسيح الذي اختارهما. فهما ما زالا ينظران الى المسيح من المنظار اليهودي الذي يرى في المسيح المنتظر ملكًا على صورة داود، يحكم بالقوَّة ويعيد المجد لبني اسرائيل ويحرِّرهم من الطغاة الرومان ومن الوثنيِّين الكافرين. لذا طلبا إليه أَن يكونا إلى جانبه كوزراء الملك أو أعوانه المقرَّبين. كما لم يفهما رسالتهما التي تبعد كلَّ البعد عن المجد الأرضي، والتي سوف تنتهي بالألم والشهادة لينالا إكليل المجد السماوي. فكان جواب المسيح على طلبهما لا رفضًا ولا قبولاً، إنَّما كان تعليميًّا كي يفهم الرسولان حقيقة الواقع الذي هما فيه. فأكمل يسوع الحديث معهما سوآلاً وجوابًا، غير أنَّ مقصد المسيح يختلف عن مقصدهما. فهو يشير الى موته على الصليب بقوله هل تشربان الكأس التي نشربها، وهما يشيران الى عزمهما واستعدادهما للموت من أجل الملكوت الجديد المتحرِّر.
أليس موقف يعقوب ويوحنَّا ابني زبدى مشابًا لمواقفنا نحن حين نطلب من الله طلبات تظهر مجدنا وقوَّتنا وليس مجدَه هو؟ ألم يخالفا الوصيَّة كما نخالف نحن حين لا نطلب أوَّلاً مجد الله وبرَّه كما علَّمنا المسيح في الانجيل ثمَّ نحصل على الباقي مجانًا؟ أليست أحلامنا بالمال والسلطة والقوَّة والزعامة والتقدُّم على الآخرين هي هي أحلام ابني زبدى؟ فلنسمع جواب المسيح لنا ولهما.
2- ستشربان الكأس التي أشربها.
عرف المسيح بمعرفته الإلهيَّة أنَّ يعقوب ويوحنا سيستشهدان ويموتان في سبيل البشارة والملكوت. ولكنَّه لم يعدهما بالجلوس عن يمينه وعن يساره وذلك لأسباب أذكر منها:
أ- لو وعدهما يسوع بإكليل المجد السماوي عن يمينه ويساره، وهما يفكِّران بالمجد الأرضي، لأتى يوم خاب فيه أملهما، وربَّما اعتقدا أنَّ وعد المسيح لهما غير صادق.
ب- لم يشأ المسيح أن يزرع التفرقة بين الرسل، لأنَّ العشرة الباقين اغتاظوا من يعقوب ويوحنَّا لمجرَّد سماعهم طلبهما.
ج- أراد أن يكمل تعليمهما واعدادهما للرسالة، كي يكتشفا الطريق التي توصل الى المجد الحقيقي.
3- الجلوس عن يميني ويساري هو لمن أُعدَّ لهم.
قد يتساءل البعض عن قصد المسيح بقوله «لِمن أُعدَّ لهم»، وربَّما رأوا في هذا الكلام نوعًا من الحكم الإلهي المُسْبَق على البشر، ووصلوا الى القول: كيف لي أن أخلص اذا كان الله لم يعدَّ لي مكانًا في الملكوت؟
إنَّ أسلوب المسيح هنا في جوابه لابني زبدى هو مشابه لأسلوبه حين ردَّ على سؤال الناس عن آخر الكون وخراب العالم وقال: أمَّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفهما أحد ولا ملائكة السماء أيضًا ولا الإبن إلاَّ الآب. فالهدف من عدم إعطاء الجواب الصحيح ليس عدم قول الحقيقة، وليس عدم معرفة الجواب، بل هو هدف تربوي تعليمي. تمامًا كما نصنع نحن أحيانًا مع أولادنا حين نخفي عنهم أمرًا ما، دون أن يكون القصد من ذلك عدم محبَّتهم.
أمَّا مسألة إعداد الأماكن لأصحابها فتحمل معنيين:
الأوَّل: إنَّ الله أعدَّ لنا الملكوت. وقد ذكر ذلك المسيح في أكثر من مكان في الانجيل حين قال: في بيت أبي منازل كثيرة وإلاَّ لقلتُ لكم إنِّي ذاهب لأعدَّ لكم منزلاً.
والثاني: إنَّ الله يعرف بسابق علمه مصير البشر دون أن يكون لمعرفته هذه تأثير على حرِّيَّة الناس في تصرُّفهم. وهذا يعود الى أنَّ الله ثابت ولا يتغيَّر وبالتالي معرفته غير ناقصة ولا تتطوَّر. كما يعود إلى أنَّ الله خارج الزمان وبالتالي هو يعرف كلَّ ما يجري في الزمان، أمس واليوم وغدًا. وهذه المعرفة لا تعني حكمًا مسبقًا من الله بل معرفة بما سيؤول إليه مصير الانسان الحرّ.
4- عظيمكم فليكن لكم خادمًا.
استكمالاً لهدف المسيح التربوي، دلَّ بكلامه على طريق المجد الذي يعطيه هو، ألا وهو الخدمة وليس السلطة والقوَّة والمال. وهكذا وضع نفسه مثالاً لتلاميذه حين قال: كذلك ابن الانسان ما جاء ليُخدَم بل ليَخدُم ويبذل نفسه فداءً عن كثيرين. والخدمة تعني الصبر والتحمل وطول البال والتخلِّي عن الحقوق.
وهنا نقف وننظر ونتأمَّل. هل نحن على هذه الطريق؟ ألا تغلب علينا رغبات معاكسة لروح الخدمة؟ ألا نطلب الراحة والرفاهية لنفسنا عبر جعل الناس الآخرين يخدموننا؟ ألا نبرِّر أعمالنا ومواقفنا هذه بأنَّنا نخدم الناس بأموالنا فنجعلهم يعملون ليعيشوا بكرامة؟ ألا نسعى للمناصب والمكاسب لأنَّ نسق الحياة الدنيا يفرض هذا الأمر؟ فأين نحن من نسَق الحياة الآخرة؟ هذا هو الواقع الظاهر للعيان، والمؤسف أَنَّه دخل جميع المؤسَّسات ومعظم عقول الأفراد حتى الذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس.