كرّمت الرابطة الثقافية- طرابلس الروائي السوداني أمير تاج السرّ في احتفال أطلق خلاله روايته الجديدة الصادرة عن دار نوفل بعنوان “جزء مؤلم من حكاية”، وذلك بحضور الوزير محمد الصفدي ممثلا بالدكتور مصطفى الحلوة، الوزير جان عبيد ممثلا بالاستاذ ايلي عبيد، رئيس الرابطة الثقافية رامز فري، رئيسة جمعية طرابلس السياحية الدكتورة وفاء الشعراني، السفير السابق خالد زيادة، والدكتور والشاعر مصطفى عبد الفتاح، الأديبة والباحثة ناديا ظافر شعبان وحشد من الأدباء والكتّاب والإعلاميين..
قدمت الأديبة ضحى المل الاحتفال الذي شاركت فيه الدكتورة وفاء شعراني والدكتورة هلا الحلبي وافتتحته جاء فيها ” ان احتفالنا اليوم بهذا الأديب الكبير يضعنا أمام مستوى حضارة الكلمة في السودان الحبيب ويقدم لنا تصورا عن بيئة وواقع لم نعرفه او سمع حتى به . فكان أديبنا امير تاج السر رسولا لعالم عاشه وعبّر عنه وقدم عن اسلوبه المتميز في السرد. فمرحبا به بيننا في مدينة العلم والعلماء مدينة الفيحاء طرابلس وفي الرابطة الثقافية هذا الصرح الذي يجمع ولا يفرّق …
د. وفاء الشعراني
شرحت دكتورة وفاء الشعراني في كلمتها رحلة الأديب الروائية وأهميتها بالنسبة إلى الرواية العربية، وقالت:
يسعدني أن أكون المتحدثة باسم جمعية طرابلس السياحية في هذه المناسبة ، ليست مناسبة عادية استضافتك دكتور أمير تاج السر ، أحييكِ الكاتبة الاستاذه ضحى على جهودك لتحقيق ذلك ،
الروائيون يصلون ما انقطع ، فأن تكرّم مدينة طرابلس روائيا عربيا سودانيا يعني ما يعنيه لوجدان هذه المدينة في المرمى المتوسطي العربي أولاً ومن ثَمَّ ما يعنيه من الاعتراف بمكانة الرواية والروائيين وقد هيمن هاجس رعب المتغيرات العالمية والقومية والمحلية ، أضيف : لست بصدد تقييم دور الروائيين ، لكن الرواية هي بنت المدن ، كمثلِ عقارب ساعةٍ كبيرة على إحصاءٍ لا يتوقف .
إننا عندما نستقبل روائيا من قامة أمير تاج السرّ ، فإن الكلام يجب أن يكون موازيا ، صاحبُ كتلةٍ روائية تضم في رواسيها مجموعة هائلة من صنوف البشر تمتطي مراكب يجرها بحارون يحلمون يقرأون ويكتبون تحفر أقدامهم رمال وكثبان وهضاب المدن وتترك بصماتها في مجرى وادي النيل ،
في خضم تلك الأثقال تظهر مشكلة في الكتابة ، أي نوعٍ من أنواع كتابة ، عن أعمال تاج السر، لأنها تفرض أولا حيازة استعدادٍ تام غير منقوص لاستبدال ماضي السرد العربي بالحاضر الحي ، لرفع الحجاب عن السرد المعاصر، وذلك بالنسبة لي يحتاج جهدا كبيرا ، وتفرض حيازة أمرٍ آخر : القدرة على التقاط تلك الإشارة الكافية الوافية للتعبير عن ماهية مكونات العلاقة بين الرواية عنده ورؤيته الحياة والعالم ، إنه دون كيشوتي ، لا يستقر على موقعٍ من مواقع الراوي ، ولكنه لا يقع في التناقض ، واقعي يروي قصص قرونٍ مضت ولا يؤرّخ ، يستجلب أساطير فلا يتركها هائمة عن الواقع ، يرابط لها معقولةً في أعمق درجات الوعي ، لا تفارق الحواس ومتأهبٌ لها ليرفع ألغازها باتجاه العقل الذي كان يستحوذ على النظر ، فيغدو سحراً .
تودُّ ل لو تلمس كل شخصيات رواياته ، 366 ، وقلم ينب ، وتلك الرواية الملحمية التي يسير بها خطوة خطوة في بنية رواية على الصياح او المناداة بالصوت العالي ، أرهقه العذاب ، العذابات الانسانية التي أوجدتها حرب الطمع وحرب الخسارة ، أقول بأنه لا تكفيك نظرة تنظرها ، بل تحتاج نظرات لا تنطق باسم العيون فقط ، يطل منها الشمّ والتذوق ، أهذا كله لولعٍ بأسماء ، عشقٌ يلتهمُ العقل ، لأجلها ولِد عاشقا ، عاشقا لك أيتها المضيئة ، حتى الجنون ، لغة شعرية ورموزاً وصوراً مجازية ، أم لتلك العذوبة وحبكةٌ لمدنةٍ لم تُخلق على مثال ، تستبدّ بك ، تحتلُّك من موقعها المحوري في سياقات تعبيره ؟
أحداثٌ يتنقلُ قيها هذا الراوي ، لقد أُخِذتُ بجزءٍ مؤلمٍ من حكاية وصلتني للتوّ ، بكيتُ عندما سأل الموتُ أمَّه الجميلة : هل نذهبُ إلى التربةِ يا أمينة ؟ ردّت : نعم ، نعم ، في روايةٍ يأخذ الموت فيها موقع الراوي يمارس تاج السر جموح الخيال ، يقترب ويبتعد من أزمانِ الشرّ والصراع والتعامل مع الشيطان المدسوس في خلايا شخصية مربكة ، كيف ومن أين استلهمها ، جوابٌ يحتاج مسامراتٍ فرويدية طويلة فرويدية لاكانية مَعرّية الجرأة ، حيَّانية المعالجة واللغة ، تتسرب عبر كلماتها مفاهيم كثيفة ، توحي بنسائها وألوانها وصناعة تمائمها أن معرضاً لفنٍ تشكيلي غريب سيعرض لاحقا.
لستُ ناقدة ، أمضيتُ وقتاً طويلاً في مراجعةِ مانغويل وتريخ القراءة ، قد لا يهتم أمير تاج السر لهذه الوقفة ، لأنه يمتلك إجاباتٍ صارمة إزاء القراءة والنقد ، ولكن كتابة الظلال مثيرةٌ للعواطف ، الرسائل لأسماء بالحبر الأخضر ، إنها أضحت مرآة روحه يقضي أيامه يفتش عنها ، وهي لم تره ، يشكو لها الأهوال والعلاقات في شقي المدينة المجهولة الراقي والشعبي ، يجول في المدينة السودانية يعرفها زاوية زاوية ، فقل إن علاقة الراوي بمنفاه في مدن الملح ، والقول صحيح ، لا اثر لها ، الدينامية الحقيقية تنبعث من جنبات شوارع عياداته ، لممرسة لعبةٍ تعبث برؤوسنا ،مقروءةً على قدرة ربط الدرامي بصراع ينطلق من شيئٍ كبير لمأساةٍ وغمٍ وجرائم مختبرُها قلب المدينة ، أسماء والألماني والبخاري ، وأستاذ الكيمياء ، يبدو مذهلا في تصعيد الحدث وصفاً وسجالاً على نفسِ لا منتمٍ يخسر كل شيئ بارادته هربا من النفاق وذل السلطة ، مصرا على العشق ميتاً ، منتحراً .
إن طموحا مشروعا تسعى إليه جمعية طرابلس السياحية في تكوين منصة كرنفالية ثقافية لاستضافة روائيين وشعراء و فنون المسرح ، أليس هذا من حق مدينة كهذه المدينة في أن تسعى إلى خلق مجموعات قراءة تؤسس ربما لتحقيق حلم قراءة الرواية العربية على امتداد قرنٍ كامل ، تلاحق محسن توفيق الحكيم في عودة الروح وعصفور من الشرق، وساره عباس محود العقاد واولاد حارتنا وفيصل خالد زيادة يقف على ابواب دمشق واسماعيل جبور الدويهي وامه ، لن أستفيض اليوم اكثر في هذا ، ولكنني في ملاحقة قدر الالماني ، في رواية 366 ، واختفاء البعثي بخاري المؤلم ، لا بد من ذاكرة واحدة تجمعهما ، أستطيع قياساً على لعبتك الفنية أحسبهما وقد غادرا الرواية إلى خارجها ، حيث سيمشي بخاري في جنازة عبد اللطيف السالم يحمله خالد خليفة ، على طول المساحة السورية ، ليدفنه في قريته .
أستطيع أن أكتب عن شخصيات رواياتك أمير تاج السر إلى ما لا نهاية ، فأنت : على حال عوليس في البطولة تُعاني، أمير تاج السرّ ، عذاباً لذيذاً ، أراك تجتاز مهالك الميثولوجيا الأغريقية وميثولوجيا العرب مستدرجا من جوفك قوة خارقة للإقامة على خطوط رحلاتٍ متشعبة ، ولأجل تحقيق هدف نهائي ، تتقن القول ، فلا بدّ كما على حالِ عوليس ، أن تؤوب منتصراً إلى المكانِ الذي انطلقت منه ، إلى تلك المناطق الزاهرة تمدّ لمعان النجم الشعري في المكان والزمان ، ربُّ الشعري في كل أطرافِ ولاياتٍ تكتظ بالحكايات والأسرار تقبع شاهقة على حدود شبه صحراوية ، وصحراوية في آن يجمع الين ناسها ، تركهم الاسلام السياسي في أتون اللهب ، نلتقي أبطالَك في الشوارع والأحياء كما لو أن ثمة ملامح نعثر عليها بيننا وقلوبها لم تعد سليمة ، ولم يعد للتلف ما يعوضه فيها ، في كل لقاءٍ مع أمير تاج السر ترهقه بالأسئلة ، عن جغرافيا السودان وتاريخه وهو لا ينفك ملتصقا في ذاك المكان ، رغم المغادرة ، فتكون الإجابة سجلاّت سحر، يزركش الماء ، يكتب رسائل العشق المستحيل ، يغرق في سحر العيون والجمال ، يضيف بذلك السرد في هذه الرواية صنوفا جديدة على المساحات الصامتة المحيطة ، صنوفٌ تعبر عن نظرة الراوي ومن خلفه الكاتب الضمني على انفتاح ٍ مخفيّ نقدي حداثي ، للمواطنة في الدولة/ الأمة الحديثة، دون أدنى شك .
مهماتٍ صعبة ، في أنحاء ذاك الوادي المتعدد الألوان ، لأجل شيئٍ يعنيه ، يبقى تاج السر على سعيه ، يحفر في اللغة يصول ويجول في اعماق ذاته يكتب ويكتب بلا تردد على مدى صفحات وصفحات، تدرك مغزاها في قراءة كاشفة لمعنى القول بعيدا عن إيديولوجيته ، حيث يترك لأصوات شخصياته المساحةَ كلَّها ، هكذا أبصرُ الراوي متمرساً بمعجمٍ وقمرٍ ذهبي يسكن على اطراف ولايات السودان وحدودها ، حيث ينشطر نهر عظيم ، الى لونين في تحفة أبدية ، تقول من أين تأتي لتاج السر هذه القدرة ، يريد اشباع رغبة مخفية بين الطب والأدب ، تشيخوفي : زوجته الطب وعشيقته الأدب ، هل تنبأ بما يحدث اليوم في الواديين النيلي والفراتي على غرار أورويل المتشائم أم على غرار موراكامي الذي يجتاف الحوادث يراقبها ليعيد كتابتها على وميض نور يخرج من الظلمات ؟ فهل لو استمرت مبادئ أنبياء الشرق لما وقع العالم في أتون الظلام ، لا يقترح حلولا ويكتب المقالة .
هل أن على المفهوم النقدي الجديد تجاوز الأدب القومي فلا يبقى متوحشاً مزاجيا دائما على حافة الانفجار في سماته المميزة في البيئة والشخصية والزمن ، عربيٌّ على صراعٍ مع عروبتِه ، كما فيليب روث يهوديٌّ على صراعٍ مع يهوديته في خمسينيات أميركا والحرب الكورية مشتعلة ، إن الكتابة في هذه النقطة تحتاج إلى مشروع قراءاتٍ كبرى كي لا تموت الرواية العربية ، وتبقى سجلَّ وثائق حية ، عندها تصلح المرايا أن تكون معبراً إلى عالم تاج السرّ ، ستعكس تلك المرايا صورة العربي لغة وعشقا وقضايا سياسية على خلفية مرحلة مفصلية من تاريخ الخراب في المدن والأقاليم والدين والقيم ، إن في قميص تاج السر تختبئ طلاسم لغة الشعر فلكي نبحث عن النور لا بد من أن نحيط أنفسنا بظلمات كثيفة.، ولكي نعرف الطمأنينة لا بد من أن نمر بعنف لا حول لنا فيه ، ربما قوة سرد عبر الكتلة الروائية المخيفة التي بناها أمير تاج السر ، لا تلتفت كثيرا إلى كلامٍ قديم عن البنية الروائية وعن تقنيات السرد والنقد الأدبي ، فهذه الأفكار لن تدوم أكثر من ثانية ، أي الوقت اللازم ليضع يدَه على قلبِه لينجح بالتبسُّم وليخفي إشارت التقاطه شخصية عابرة سيكتبها رواية ، قريباً ، لا ينتهي الكلام عن الرواية العربية أو عن ذلك الرجل الذي اسمه : أمير تاج السر .
د. هلا الحلبي
تحت عنوان ” المنحى الفلسفي عند شكسبير الشرق” أمير تاج السرّ” حللت د. هلا الحلبي في كلمتها رواية “جزء مؤلم من حكاية”، وقالت:
ما هي مهمّة الأديب؟ أهي في رواية الأمور كما وقعت فعلاً؟ أم في رواية ما يمكن أن يقع وفق المفهوم الأرسطيّ؟ وإثارة التأمّل واستقراء الحقائق في تقاطع متأزّم تمهيداً لقلب مفاهيم أصبحت بالية؟ إذ يضعها موضع الشكّ لتصدمنا مجريات الأحداث الروائيّة ونصطدم بشخصيّاتها وهدفه إزالة الغبش عن أعيننا ونفض ركام العادة المألوفة والمتراكمة عبر السنين.
هذا المنظور نرى الموت يضجّ في أرجاء رواية “جزء مؤلم من حكاية” لأمير تاج السرّ من السطر الأوّل حتّى الأخير فيها، فالبطل “مرحلي” ليس قاتلاً محترفاً كما قد يُرى بل هو سارقُ أرواح، يشبه عزرائيل، وخلفه ظلٌّ آمر أكثر شراسةً منه “ديباج”، وهو الآمر بنهب الأرواح كما الاله. فمهمّة الأوّل تنفيذ حرفيّ لأوامر الثاني من غير سؤالٍ أو استفسار، وكأنّ هاتين الشخصيّتين في لا مبلاتهما وعنفهما غير المبرّر صورة عن الإنسان الوجوديّ الذي يقتل ليثبت أنّه موجود، لذلك يدخلان معاً في لعبة خطرة غير مسوّغة عاطفيّاً أو مادّيّاً، ثم لتتعدّل الجرائم وتصبح كلّها كما أطلس حامل السماء على كاهل المنفّذ المأمور ومسؤولاً عنها، ويعاقب عليها لاحقاً، لا على كاهل الآمر المسؤول والمدبّر والمخطّط. وهذا ما يذكّرنا بنجيب محفوظ في أولاد حارتنا التي أثارت حفيظة كثيرين حين نشرها وكادت تودي به، فبل أن يُعترف بها ويقرّ بفنّيّتها، من حيث اقترابُها من مفهوم الألوهة، ولكن مع تاج السرّ بأسلوب أكثر رمزيّة مستعيناً بشخصيّة الساحر الأسطوريّة.
وإنّي لأتساءل: كيف يتعلّق القارئ بشخصيّة البطل ولا يقرف منه وهو سارق أرواح أي مجرم يقتل بدمٍ بارد؟ ولماذا أرادنا الكاتب أن نتعلّق به؟ ولم يبدُ مقرفاً كما الشخصيّات الوجوديّة في الروايات الغربيّة؟ لقد ترك لنا تاج السر مقعداً ملاصقاً لذات البطل لنرقبه في أفكاره وتحركاته وسكناته وكوابيسه ونكون ظلّاً خفيّاً له حتّى ونتعاطف معه.
ضمن هذا السياق ظهرت الفنّيّة عند أمير تاج السرّ في قدرته على تجميع خطوط شخصيّات الرواية ، ودمجها في السياق الروائيّ لتسهم في ضخّ وقود جديد وإعلاء لهب العنف والتشويق فيها وإن بدت الشخصيّة الأساسيّة مرتعاً خصباً للمزاج السوداويّ ومتنفّساً عميقاً للإحساس بالفجيعة، وهي في ضوضاء المواقف العنيفة والمؤلمة التي تدهمها، شخصيّة وجوديّة تعاني من القلق والفراغ واللامعنى والضجر ويتملّكها هاجس اللاإنتماء والتشرّد من خلال تبنّيها الموقف الوجوديّ الفلسفي اللامبالي، حتّى ليبدو أنّ الرواية الوجوديّة قد عبّدت طريقها إلى القصّ العربيّ الحديث مع الكاتب “أمير تاج السرّ” بعدما جاءت لتصور الواقع السودانيّ المؤمن بالسحر وقدرة التمائم العجائبيّة والمتحرّكَ وفق إيقاع قديمه، ولكن ضمن مفاهيم فلسفيّة وامضة نتوقّف عند أبرزها:
الإنسان: حاول الكاتب رؤية هذا المخلوق من زاوية فلسفيّة فهو” مقيّد إلى الفراغ بحبال أسطوريّة”(ص٣١٠) ومجبول بالقلق و”مدهون بالخيبات” (ص٤٧) شرّير وكأنه ابن ابليس(ص٣٩) بل إنّه ” خواءٌ بخواء”(ص٢٥٧) وهو جسديّاً وفعليّاً رائحةٌ فقط (ص٢٥٩) وكأنّ هذه الرائحة هي الحقيقة الملموسة البشعة التي لا يمكن نفيها لما تبعثه من قرف. فهل الإنسان مخلوق غارقٌ في عالم تفاهته اليوميّة واحتياجاته الجسديّة؟
الزواج: ليس استقراراً بل هو “حصار باستقرار ما “(ص٢٠)، إنّه استقرار واهم ولن يصبح حقيقة.
الحب: ومصدره القلب المتقلّب ولكنّ الكاتب قد لا يعترف به ولا غرابة في ذلك، فالحبُّ آنيٌّ ظرفيٌّ ومؤقّت، وقد جُبلنا برأيه على” اختراع الاشتهاء”(ص٢٣) واختراع الأمان الواهم الذي اعتدنا على زرعه في نفوس الناشئة منذ نعومة أظفارهم. وعلينا التدرّب على فطم الرغائب (ص٢٠٥)
الحياة: ملاءة وسخة (ص ٢٥٨) فهل نحن نحياها حقّاً آم آنّنا رسومٌ أفلاطونيّة وخيالات للحقيقة؟
الموت: مراوغ ومحتال يبحث عن حيلة لاختطاف الأرواح (ص٤٠)، فكلّ وليد هو مشروع قتيل(ص٢٦) يسعد به عزرائيل مثلما نسعد إذا ولدت في القطيع حملان جديدة ولعلّ في قول أبي العلاء المعرّيّ بعضَ تخفيف من هول الحقيقة (على الخفيف):
وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قي سَ بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ
الصداقة: وهميّة ومجانّيّة وعمياء، لا تكتمل إلا بجرّها في وحل، ونحن مسحورون بها ولكنّنا لا نعرف كيف تبدأ ولا كيف تنتهي، بل نحن حرّاس لوهمها(ص٥٩)، وكأنّ الصديقَ فارسٌ في الضفاف القريبة ولكنّه لا يجيء وفق مقولة أدونيس. فالصداقة سرابٌ وليس من صداقة دائمة، ولكلٍّ منها نهاية حتميّة.
المجتمع: وسطوته على العلاقات الإنسانيّة وقوننتها: علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين الأقرباء والأغراب، وعلاقته بالله وعلاقاته العاطفيّة وامتداداته الماليّة.
الحزن: هو بهار الحياة (ص ٨٨ و١١٦) ونحن نبكي بدموعنا ودموع الآخرين (ص٥٩) فهل الحزن مع الجماعة أشدّ هولاً من الحزن المنفرد؟ وهل يعظّم الآخرُ حزننا ويخفّف منه على السواء؟ إذ يرى الكاتب أنّنا نبحث عن الآخر لطرد حزننا (ص٢٩٦).
الشرّ: من هو الشرّير؟ وهل يستأهل الموت؟ ومن الذي أوجد الشرّ؟ يستعرض الكاتب حماستنا الخفيّة للإيذاء (ص٦٣) ويرى سرعة تحوّلنا بلمح البصر من أخيار إلى أشرار وكأنّنا بحاجة لمتنفّسٍ للشرّ الكامن والمزروع فينا (ص ٣١٢).
الرعب: يفتح أعيننا أمام الحقائق يقول “أفتح عينيّ وأغمضهما بحسب مساحة الرعب داخلي”(ص٣١٢) لذلك فلا غرابة أن يرى أمير أنّ للرعب دوراً أساسيّاً في الإضاءة على الحقيقة فهو تنويريّ بصورة من الصور.
المال: مع أنّه زينة الحياة الدنيا، فإنّ الكاتب يراه قذراً سواء أأنفق أم كدّس (ص٧٤)
الضوء: لا ينير بل يوضّح العتمة أكثر(ص٧٣)، فالضدّ يظهر حسنه الضدّ، فبالشرّ نعرف الخير، وبالجوع نعرف الشبع، وقديماً كان للإنسان إلهان: واحد للخير وآخر للشر وبهما يكتمل الكون.
الوقت: “كلما ضاق وقت اتسع آخر” لذا لا تحزن (ص٧٣)
المرأة: كائن حريريّ وشفّاف (ص٩٦) ولعل تلك الشفافية سببٌ لأنّها لا تحفظ الأسرار (ص٢٠٣) إلّا أنّها ما زالت تحتفظ ببعض قداسةٍ قبل أن يقتحم العالم الذكوريّ مكانتها لذلك جعلها المجتمع السودانيّ بوجهين وجه مقدّس شجرة وآخر شرّير وشيطانيّ. تُطاع في الوجه الأوّل بصورة عمياء ويتُوجّب قتلها في الوجه الثاني.
الملابس: لها أرواح (١٢٣)، فاللباس بشكله ولونه وقماشه وطريقة انسيابه على الجسم يعطي معاني جديدة للإنسان ويعمّق شخصيّةً يرتاح إليها ويريد أن يتقمّصها.
الأفكار: تتلعثم (ص ١٧٩) وتخرج من غرف النساء بسهولة (ص١٩٤).
القتل: من هو القاتل الحقيقيّ وهل للقتل أخلاقيّة تقتضي بخلع وجه القاتل (ص ١٥٩) وذلك إثباتاً لشجاعة القاتل وشهامته. فهل يقوم عزرائيل بذلك عندما يختطف روحاً؟
عالم الليل: حقيقيّ وعالم النهار، لا شيء، إذ في النهار نعيش بلا عالم (ص ٢١٥)
التميمة: ودورها النفسيّ في السيطرة على الفطرة. يقول:” علّقها لتزول عنك الغطرسة” (ص٢١٧)
الأسطورة: تضيء حقيقة الإنسان المغطّاة بالمشاغل اليوميّة وهو “مكشوف الأسرار لها” (ص٢٤٧).
بهذه النقاط ارتفع أمير تاج السرّ بالرواية من فرديّة المجتمع السودانيّ وأسطوريّة إيمانه ليبدو وكأنّه مسكونُ بهاجس الثورة على المفاهيم البالية وحريصٌ على انتشاله من سباته نحو عالميّة الفجيعة الإنسانيّة عبر استبطان وقائيّ لمفاهيم كثيرة، بعيداً من ضوضاء المواقف الحياتيّة المستجدّة التي تكبّل الفرد ليودي به نحو اللحظة الأزليّة الوامضة ويحاول الإجابة على الأسئلة الوجوديّة المحيّرة: لماذا خلق الإنسان؟ وهل جاء لينفّذ مهمّة إلهيّة؟ وكيف يعاقب على شرٍّ مزروعٍ فيه؟ ….
وبهذا الارتفاع عن الوصف الساذج ليوميّات مجتمعه حاول أمير التعمّق في أسباب الفجيعة الإنسانيّة وخطا خطوات في تصوير اللاجدوى والقلق الذي يتخبّط فيه الإنسان في كلّ الأزمنة، وتصوير الرغائب المجنونة والصراع الأزليّ بين الخير والشرّ وكأنّه شكسبير الشرق، ليذكّرنا بأنّنا أحفاد قابيل القاتل، إذ يملك جرأة نادرة في رسم معالم شخصيّاته ويُركب القارئ أفعوانيّة الانفعالات الشرّيرة المتطرّفة ولا يدعه يلتقط أنفاسه بسهولة في رحلة صراع الإنسان مع أهوائه ومحيطه، ليرتفع به من قوقعة المكان والزمان ويصل إلى عمق جراح النفس الإنسانيّة المتأصّلة والتي لا يدَ له فيها. وليشدّه إلى اللحظة الأزليّة حين جُبل جدّه آدم من أديم الأرض، وحُكم عليه بأن يظلّ يشقى في حياته بلا طائل قبل أن يصطاده الموت المحتال ويعود إلى حيث كان.
هكذا وبواقعيّة جريحة كانت بساطاً لبسط البصيرة، أتانا أمير تاج السرّ غازياً لا مستسلماً، ليعُمل مبضعه في شرايين التاريخ بحثاً عن سمٍّ حقن المجتمع فيه أبناءه، ويسحب أسباب الموت والتقهقر الحضاريّ عسى يستفيق الجريح الشرقيّ من سباته قبل أن يفوت الأوان.
بعد ذلك ألقى أمير تاج السرّ كلمة عبر فيها عن سروره لوجوده في طرابلس التي اعتبرها بحق مدينة العلم والعلماء. ودار حوار بينه وبين الحضور حول اعماله الادبية. من ثم قدمت له الفنانة التشكيلية الفلسطينية تغريد عبدالعال رسماً من وحي روايته الجديدة، وقدم له رئيس الرابطة الثقافية رامز الفري درعاً تقديرية..