لِلرِّيحِ وأَنِينِها بَينَ أَغصانِ الشَّجَرِ، وصَفِيرِها المُنسَرِبِ مِن شُقُوقِ النَّوافِذِ، فِعلُ السِّحْرِ في نَفسِي.
فَمَهما تَكُنِ الحالَةُ النَّفسِيَّةُ الَّتي تَتَمَلَّكُني، فَإِنَّها تَزُولُ عِندَ هَبَّةِ الرِّيحِ الَّتي تَنقُلُنِي إِلى عالَمٍ آخَرَ، عالَمِ الرِّعشَةِ تَسرِي كَخَدَرِ الخَمرِ في مَفاصِلِي، وتُطبِقُ أَجفانِي بِأَصابِعِها فَأَسرَحُ في حُلُمٍ عَمِيقٍ بَعِيدٍ، وأَنسَى الوُجُود.
ولَكَم أَخَذَنِي عَوِيلُها في رِحلَةِ الخَيالِ إِلى ذلك المُنحَدَرِ الأَخضَرِ، في قَريَتِي، المَدرُوزِ شَربِينًا، والمَوشِيِّ بِالصَّعتَرِ الزَّكِيِّ، حيث كُنَّا، صِغارًا، نُواجِهُ الرِّيحَ بِصُدُورِنا، وهي تَشُدُّنا إِلى الوَراءِ، ونُنادِي بَعضُنا البَعضَ بِالصُّراخِ الَّذي تُبَدِّدُهُ بِضَوضائِها الأَقوَى، على ضَحِكاتِ الطُّفُولَةِ وعَبَثِها الجَمِيل.
فَما هو سِرُّكِ أَيَّتُها السَّاحِرَةُ، يا ابنَةَ الطَّبِيعَةِ الهَوجاءَ، الَّذي يَخفَى على إِدراكِي، ويَهُدُّ كُلَّ مُقاوَمَةٍ لَدَيَّ، فَأَنصاعُ لِزَمجَرَتِكِ، وأَنقادُ، ولكنْ إِلى لَذَّةٍ لَم تَبلُغْها حَواسِّي مع أَيِّ شَيءٍ آخَر؟!
لِلَّهِ ما أَنا فِيهِ يَومَ تَهُبِّينَ، إِذ أُسارِعُ إِلى نَفْضِ يَدَيَّ مِن كُلِّ مَشاغِلِي لِأَتَفَرَّغَ لِعِشقِكِ، وأَذُوبَ في وِصالِكِ، يا حَبِيبَةً أَدرَكَت ضَعْفِي أَمامَها فَتَدَلَّلَت، وكانت سَخِيَّةً فَمَنَحَتنِي وَجْدًا لا تَمَلُّهُ جَوارِحِي، ولا يَخْبُو ولو تَكَرَّرَت زِياراتُها على العُمر.
أَنا أَعشَقُكِ أَيَّتُها الرِّيحُ، في الوِهادِ وفي الصُّرُودِ، بَينَ صُخُورِ الوَعْرِ وأَشجارِ الحُقُولِ، في السُّهُولِ والسُّهُوبِ والسُّفُوحِ الخُضْرِ، على تِلالِ الأَمواجِ وفي أَعماقِ الأَودِيَةِ، في عَربَدَةِ الشِّتاءِ وفي كَآبَةِ الخَرِيفِ.
أَيَّانَ يَطِيبُ لكِ الهُبُوبُ، هُبِّي، وَأَنَّى يَحلُو لكِ المُرُورُ، مُرِّي، فَأَنتِ مَلِكَةُ الطَّبِيعَةِ، وما على جَلالَتِكِ قُيُود؟!
أَلَا هُبِّي، فَهُبُوبُكِ الفَرَحُ، والخَدَرُ، واللَذاذَةُ، وأَنا مِن هُيَّامِكِ المُتَيَّمِين!
***
يا رِيحُ هَبِّي، واعصِفِي، وعلى مَدارِ الأَرضِ دُورِي
فَأَنا نَظِيرُكِ هائِمٌ في الأَرضِ والفَلَواتُ دُورِي!
***