دلالات الخطاب الصوفي في :

ديوان د . أسماء الغريب (99 قصيدة عنك) الجزء الاول

يبدأ ديوان الشاعرة د. أسماء غريب (( 9 قصيدة عنك)) (1) بإشكالية معقدة منذ العنونة ومنذ أول رمز فيه حيث ابتدأ برمز رقم صريح وهو(99) ونحن ندرك أن هذا الرقم قصدي من حيث مجيئه أولا في تراتبية العنونة واختياره كعنوان للديوان وهو بالأساس نصّ من بين نصوص الديوان، ووقع تسلسله بـ (99) أيْ القصيدة التسع والتسعين من بين مائة وخمس وعشرين قصيدة احتواها الديوان، واللافت للنظر أن القصيدة، أيْ(99 قصيدة عنك) تضمنت تسعة أشطر أو فقرات، ويعد هذا الرقم الذي أصله (9) ذات دلالات شكلية ومعنوية فكرية قصدية تتيح للقارئ أن يتوقف عندها ويتساءل عنها: لمَ جاء الديوان والنص بهذه الصيغة دون سواها؟

والسؤال الأهم الذي يتبادر للذهن لمن وجّهت الشاعرة خطابها؟ حيث هناك مجهولية وعماء للمخاطب (بفتح الطاء) فمن هو ولماذا لم تفصح عنه؟ ولماذا خاطبته بحرف الجر (عن) دون سواه من حروف أو ضمائر للخطاب؟ ولماذا الخطاب كان مباشرا (ضمير متكلم مخاطب) وليس بضمير غائب؟ كل هذه الأسئلة قد تتبادر في ذهن المتلقي .

لفلسفة الأرقام عند العرب والمسلمين وأغلب الحضارات القديمة قيمة معرفية وروحية كبيرة وتصل لحد الخرافة، وما بين اليقين والخرافة والعقل تبدو الإشكالية تتسع أكثر فأكثر، فعلوم الحساب والرياضيات والجبر تقوم فكرتها ومعادلاتها على الأرقام كرموز ترسم وليست كألفاظ تكتب، وقد اعتقد فيثاغورس وبعض فلاسفة عصره أن لمفاهيم الرياضيات حوليات وتطبيقات أهم من مفاهيم العالم الحسي وذلك لسهولة ترتيبها والتحكم بها.

أمّا القديس أوغسطينوس (354-430 م) فقد كتب “إن الأرقام هي لغة الكون وهبها الخالق للبشر من أجل توكيد الحقيقة “. ومثل فيثاغورس، اعتقد أن لكل شيء علاقة بالأرقام وما على عقل الإنسان إلا البحث وفهم أسرار هذه العلاقة أو توقع تجلياتها من المكرمة الإلاهية (2)، ويؤكد فيثاغورس على أن الأرقام ذات علاقة ارتجاجية مع الكون أي الكون والرقم ذات علاقة جدلية، لقد اكتشف فيثاغورس الذي كان ضالعًا في المعرفة الصوفية البابلية والمصرية، أن ذبذبات أوتار الآلة الموسيقية تُنتج أصواتًا متناغمة عندما تكون أطوال الأوتار أعدادًا صحيحة. وقد عمم هذه النتائج على الكون بأكمله، وهكذا تطور الإيمان الفيثاغورسي بالسلطة المطلقة للرقم الذي يحكم الكون ويديره. (3) .

الشاعرة تدرك سر الرقم (99) وإعجازه من حيث الدلالة الرقمية، ومن حيث دلالاته العقائدية والروحية، ومن حيث وقْعه على نفس وروح وفكر القارئ، وتمثلات الرقم يعني بطبيعة الأحوال إلى صفات الذات الإلهية وجوهر الفيض الإلهي من قدرة وقوة وعلو وتعالي وسمو، فهو المصور والمدرك والخالق والحيّ القيوم والجميل والرحيم، فهي تشير إلى صفاته وعظمته الذي دلّ هو عليها في كتاب معلوم حيث شكلت يقينا للشاعرة. وقد تداولت العديد من الدراسات العالمية التفرقة بين مفهوم الرقم والعدد، وما زال هناك خلط بين المفهومين ومتى يستخدمان.

من المفاهيم الشائعة أن الأرقام لا تعد أعدادا بينما تعد أشكالا بها رموز الأعداد، حيث تقتصر الأرقام إلى عشرة، والعدد من رقمين .

ويقول الدكتور عابد الحميدان: إن الرقم قد يمثل أي شيء، ويعتبر جزءا من العدد، فإن الرقم يظل رقما بغض النظر عن أي شيء آخر، بينما يوجد الفرق لغويا.

البعض يجد الفرق جوهريا والآخر يراه كالفرق بين الكلمة والحرف، فالأرقام تعتبر انطلاقا من «0،1،2،3،4،5،6،7،8،9»، رموزا أو أشكالا من الممكن أن تعبر عن رقم أو عدد ولا يمكن الحكم عليها إلا من خلال معرفة الهدف منها.

بالتالي إن دلت على ترتيب فيمكن اعتبار تلك الرموز رقما، وإن دلت على معدود فهي عدد، ويشير الثقفي أن الإشكالية تكمن في عدم معرفة مجتمعنا بالفرق بينهما)) (4).

من أسمائه وصفاته يتشكل نص (أسماء غريب)، منه وإليه وعنه ترسم عشقها الروحي للحيّ القيوم، فمن نوره تشع القصيدة وهجها ومن حسن أسمائه وجمال صفاته تخلق، فهي تخاطبه شعريا بوجدٍ ولوعة محب ووهن عاشق أسير الوله ((قال تعالى: “وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسمائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ”. (5)

وقال تعالى: “قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا” (6)

وقال تعالى : “اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى” (7) “هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”(8).

وفي حديث نبوي شريف جاء فيه:

“إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ” (9)

من الآيات الكريمة التي وردت في سور عديدة وأحاديث نبوية شريفة تستقي الشاعرة عقيدتها وعشقها فكتبت ديوانها بنصوصه التي بلغت (مائة وخمس وعشرين) قصيدة شعرية نثرية. فهي محاكاة لأسمائه الحسنى كما وردت في القرآن الكريم، ولأن الله واحد لا شريك له فكتبته بالرقم الرمز (99) الذي لا يثنى فلم تكتبه عددا كتابة حيث تدرك الشاعرة أن للرقم (99) قدسية عند أغلب الأديان والشعوب ((هذا التماثل والارتباط بالعدد 9. العدد الأولي التاسع في الكون هو العدد 23 (المساوي لعدد أزواج كروموسومات الإنسان المكتشف في العام 1955) . ولكي نتحقق بأن لهذا العدد أهمية عددية وارتباط علمي من هذا النوع أود أن أشير بأن كلمة “علق” هي الكلمة التاسعة في سورة العلق ونحن نعلم بأن العلقة تمثل مرحلة التصاق البويضة المخصبة (والتي تحوي 23 زوج كروموسومات) بجدار الرحم.

قال تعالى في سورة العلق “خَلَقَ الإنسان مِن عَلَقٍ”( 10) .

فالرقم(99) يمكن القول عنه هما علقتان التصقتا فأنجبتا عشق الشاعرة للذات الإلهية، فهو عشق ولد منذ العماء منذ أول إخصاب كوني فولدت حواء من هذا الاخصاب والبعث الروحي لحظة بث (الله) روحه في روح (آدم) فولدت النقطة من الروح، وما إن تكونت العلقتان وكبرتا أشقيا وهلعا هذان المولودان اللذان ولدا بمشقة وكبد كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾) (11) .

تأمل الرقم (9) في حياة الإنسان: عمر الجنين في بطن أمه تسعة شهور، متوسط درجة الحرارة في جسم الإنسان(36) درجة مئوية، و(36) من مضاعفات(9)، وأجهزة جسم الإنسان (9)، ومنافذ جسم الإنسان (9).

إن للعدد(9) بعض أغرب الخصائص مثل:

إنه العدد الوحيد في الحساب الذي، إذا ما ضرب بأي عدد آخر، تراه ينتج نفسه دوماً، مثال ذلك :(9 × 2 = 18، و18 تجمع بهذه الطريقة 8 + 1 = 9 مجددًا، وأيضا مثلا 9 × 5 = 45 و 45 تُجمع بهذه الطريقة 4 + 5 = 9) وهلمّ جرًّا بالنسبة إلى كل عدد يُضرب به.

فلم يأت الرقم(99) اعتباطا كلفظ رقمي وليس كتابيا في ديوان الشاعرة وذلك لسرّ الرقم وخصوصيته وإشارة منها إلى وحدانية الله وكلية وجوده، فهو مجرد بذاته وصفاته، لا تحتويه كلمة وحرف أو نسق، هو الواحد الأحد قائم بوحدانية .

((وكل اسم من هذه الأسماء تتكرر في القرآن عدداً محدداً من المرات، وهذا التكرار لأسماء الله جاء متناسباً مع عدد أسماء الله الحسنى أي العدد 99 كما يلي:

الله              الرحمن           الرحيم

2699           57            115

عندما نصفُّ هذه الأعداد نجد أن العدد الذي يمثل مصفوف هذه التكرارات هو (115572699) يتألف من تسع مراتب ويقبل القسمة على (99):

115572699 = 99 × 1167401

والعجيب أننا لو جمعنا هذه التكرارات جميعاً لبقي النظام قائماً ونتج معنا عدد من مضاعفات 99:

2699 + 57 + 115 = 2871

والعدد (2871) من مضاعفات الرقم (99) أيضاً:

2871 = 99 × 29

وهذا النظام العجيب والقائم على عدد أسماء الله الحسنى وهو( 99) كما في الحديث الشريف: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، وجاء ليتسق مع قوله تعالى : (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110].)) (12)

في الميثولوجيا التوتونية، جاء في ملحمة فولوسبا (Voluspa) على لسان النبية لافولفا (Lavolva): “أذكر المردة الذين ولدوا في فجر العالم / أذكر الذين أعطوني الحياة / أعرف تسعة عوالم / تسع مساحات تغطيها شجرة العالم / هذه الشجرة المبنية بحكمة والتي تنغرس في قلب الأرض / أعرف أنه توجد شجرة تسمى إيغدرازيل (Yggdrasil) / رأس الشجرة يسبح في بخار المياه البيضاء / حيث تسقط حبات الندى في الوادي / إنه ينتصب أخضر أبداً فوق نبع أورد)) (13) .

لهذا لم تقتصر الحضارة العربية والاسلامية على عظمة وسر الرقم(9) فتجد أغلب الحضارات تعظّم هذا الرقم وتبحث في أسراره وغموضه .

تتحدث الميثولوجيا عن تسعة أعداد، وتسعة كواكب . ويسمي الهنود الجسم الإنساني “المدينة ذات التسعة أبواب” إشارة إلى الفتوحات التسع . وتخبر الميثولوجيا عن معركة حصلت بين ماهيزا (Mahesa) قائد الشياطين وبين الإلهة دورغا (Durga) استمرت تسع ليال انتهت بانتصار الإلهة بعدما قدم لها شيفا (Civa) مذراته الثلاثية، وفيشنو (Vishnu) أسطوانته، وأندرا (Indra) عاصفته . وتتحدث البوذية عن تسع سماوات (14).

يبدو أن العالَم اهتمّ بهذا الرقم(9) واتخذت اهتماماته أشكالا مختلفة من عبادات وشعائر وطقوس وعادات وعلوم ومعارف من خلال تفسيرهم للظواهر والفلك والخلق، وهذا ما نجده جليا من خلال النصوص القرآنية أو ما جاء بكتب التوراة والإنجيل وكتب الأديان الأخرى وثقافاتهم.

اترك رد