منذ أن بدأ قلبي يخفق للكتب، ولم أعد أعتبرها مجرد صفحات مليئة بما نشقى لحفظه حتى ننجح ونجتاز السنة الدراسية، ومنذ أن تغيرت نظرتي حيال الكتب وازداد تعلقي بها كأنها علب كنوز وحكايات أقلب صفحاتها فترتسم أمامي عوالم وآفاق، ومنذ أن تحولت القراءة بالنسبة إلي من أشغال شاقة إلى رحلة ممتعة وجذابة، منذ ذلك الحين بات القاموس أو المعجم كناية عن قمقم سحري يطلع منه مارد صديق يغدق عليّ المعرفة ويبدد غموض الكلمات بتبسيط معانيها والعودة إلى جذورها وأصولها الواضحة ويدلني على منطق اللغة الرائع وعبقريتها العجيبة.
صرتُ كل مرة أفتح القاموس للبحث عن معنى كلمة ما، أنسى نفسي على صفحاته أنتقل فيها من كلمة إلى الكلمة التالية وكأنني في لعبة مُسلّية. وشتّان ما بين كناية “القمقم السحري” والكناية الأخرى الباقية في الذاكرة من أيام المدرسة حيث كان القاموس “كتاب القصاص”، نعاقَب بحفظ صفحة منه أو عمود كلما ارتكبنا عملاً مخلاً بنظام المدرسة أو تقاعسنا عن القيام بواجباتنا المدرسية.
كنت ولا أزال أشعر بالإعجاب والانبهار والاحترام تجاه واضعي المعاجم. كم يعرفون! نعمة الصبر والمثابرة أُعطيت لهم حتى أنجزوا عملاً ضخماً ودقيقاً هو المعجم الذي يجب أن يكون مثالاً في الدقة والصحة والكمال لكي يطمئن الجميع إلى اعتماده مرجعاً موثوقاً في اللغة والمعنى، أكان في قلب اللغة الواحدة أو من لغة إلى أخرى.
وفي هذا العصر حيث تواكب بعض القواميس التطور التكنولوجي وأصبحت متاحة على الإنترنت، صارت عملية البحث فيها أسهل وأسرع، كما باتت القواميس متاحة للجميع، طبعاً لجميع الذين لديهم جهاز كومبيوتر أو هاتف ذكي ولديهم نفاذ إلى الإنترنت. ومع غزو التكنولوجيا والفضاء الإلكتروني معظم أنشطة الإنسان، لا أستطيع التكهن بما إذا كانت مؤسسات القواميس ستستغني عن النسخ الورقية، كما تفعل المؤسسات الصحافية. ولكنني أستطيع التكهن بأنني سأظل أحب وأفضِّل النسخة الورقية لأي قاموس ولأي كتاب. سأظل أحمل القاموس وأحس بثقله، أفتح دفته وأتلمس أوراقه وأشم رائحة حبره وأتمتع بالبحث فيه. سأظل أتطلع فيه إلى دهشة يمنحها القمقم السحري.
******