(مشقة الامتلاء)
1- ما فوق الفراغ العجيب ضربٌ من امتلاء عجيب. ففي مستهل الامتلاء -الذي لم يكتمل بعد-، تشعر وكأنك ما زلتَ تحت جاذبية الفراغ وسطوته. لذا لن يكون لك ان تنجو من رَهَقٍ ثقيل الظل تفترضه عليك نقلة العقل من طور غامضٍ الى طور أكثر غموضاً…
2- في مستهل الامتلاء لا ينبغي لك أن تبحث عن راحة العقل. كلما امتلأْتَ بقدَرٍ من بساطة الرضى، تضاعَفْتَ بالتساؤل عما ينحجبُ عنك من تراكيب الأقدار وكثافتها. لكنك وانت تبتغي الامتلاء أكثر وأكثر، لن تفلح إلا بمقدار سَعَتكِ. حتى انك لتوشك على صراخ كتومٍ يضيق به الصدر. ثم لن يكون لك من سبيل إلا ان ترجع القهقرى لتمسك بناصية الصوت وتدفنه في الاحشاء. ليس لك إذاً من بعد ذلك، سوى أن تتكيَّف عالمَك المستجد وتعيشه كغريب. إلا أن ما يميِّز غُربَتَك أنك بتَ تملك قدراً من صبر. وبعد نقلة العقل أمسيتَ على قسطٍ من الرشَدِ، ومن ثَمةَ على قسطٍ مثلِهِ من التحيُّر. وها أنتذا الآن في ذهابٍ وإيابٍ داخل مثلث عجيب من الصبر والرَّشَد والحَيْرة.
3- حين يدعوك “الفراغ العجيب” إلى التهيُّؤ لتحصيل الدرجات القصوى من النشاط العقلي، فما ذاك إلا لمجاوزة معاثر أسئلة كَابَدْتها ردحاً طويلاً. وحين تُلبى الدعوةُ على نحو ما ينبغي، يرى الساكن في “الفراغ العجيب” ان الإنسان الذي يضمّه السؤال ويدور مداره هو أصل الإشكال. لكن الإنسان نفسه عادة ما يميل الى جعل تساؤله الحائر، تساؤلاً موصولاً باللاَّمرئي، توخياً لشهود القَبَس الطالع من العتم…
4- يومئ “ما بعد الفراغ العجيب” إلى ان حامل السؤال حاضرٌ في جوف كلِ سؤالِ ولا يغادره البتة. حتى إذا سأل عن شيء فإنما يسأل عن نفسه في ذلك الشيء. وفي هذه الحال إما ان يصبح كل سؤال هو أدنى الى صدىً شاردٍ في برية، وإما ان يغدوَ مفتاحاً للإدراك. من تيسَّر له الأخذ بسؤال الفهم ستحمله همة عالية ليكون شاهداً على ما لا عهد له به. ها هنا ينظر الشاهد الفاهم بحدقات البصيرة إلى محل السر: يسائله، ويستحكي صمته الدهري، ثم يمضي إلى ما هو مستترٍ داخل احتدامات الكثرة. وكل هذا من أجل أن يضع الشاهدُ الفاهمُ تساؤلَه في المحل الأنسب، أو في قلب الشيء الذي هو ناظرٌ إليه.
5- في الحضرة التي تلي الفراغ العجيب يظهر المتناهي واللاّمتناهي كَمِثلِ جَبَلين التَقَيَا عقب دهرٍ من انشطار الكون. إلا أن اللقاء بينهما كان أدنى الى ضربٍ من قلقٍ متفائلٍ بوعدٍ جلل. مع هذا.. فليس من شأن القلقُ المتفائلُ أن يُفضي بالضرورة الى إبرام الميثاق المأمول مع العقل الهادي. فدون ذلك شرائط: أهمها ما ينبغي على الحائر أن يبذله لاستعادة حضوره المترنح وسط الكثرة المحتدمة. فلا بد له إذاً من التوجه صوب من يَهَبهُ سبيل الرشاد. ولعله خاطب نفسه متنبِّهاً: كيف للناجي من الفراغ العجيب ألاَّ يتبيَّن السبيل الذي يتعرف كل موجود من خلاله على موجدِهِ؟.. أو كيف له ألا يُنشئ وصلاً مع اللاَّفاني، الذي يحيطُه من كل جانب.. ويعصمُه الطوفان، ويحفظُه من الوقوع ثانية في الظلمة؟…
تلك محنة عظمى ستظل تقضُّ مضاجع الذين خرجوا للتو من ربقة “الفراغ العجيب”.