هكذا تَعْمُرُ الأَعْمار

  

هي الحياةُ مَلْأَى بالتَّجارب، تُعْطيكَ وتُعْطي كما السَّنابل في الحُقول، منها المَلْأَى بالحبوبِ عِبَرًا وأُمثولات، ومنها تلك التي أَكلها السُّوسُ أَو خَنَقَها الزُّؤان، فغابَتْ في طيِّ النِّسْيان.

نولَدُ في كَنَفِ عائِلةٍ تَحْضنُنا بالحبِّ والحنان، وأَحيانًا تُقوّمُ اعْوِجاجنا بالقَسْوَة، فننمو بالقامةِ والحكمةِ أَمامَ الله والنَّاس، ثمَّ يرحلون تارِكينَ سفينة الحياة تَسيرُ بنا من دونهم لتكملَ رحلة العمر منفردين، أو مع سواهم ممَّن تضعُهم العناية في طريقِنا. وبهؤُلاء تَمْتلِئُ حياتنا بِما يكْسبُها نكْهةً مختلفة عن تلك التي كانت يوْمَ كان أهلنا. هؤُلاءِ هم الأَصدقاء وأَرباب العمَل ورِفاقُ الطَّريقِ نَحْوَ الغدِ المأْمول، كثيرونَ من هؤُلاءِ يَسْتقيلونَ منْ عمْرِنا وكأَنَّهم أَشْبهُ بركَّابِ سفينةٍ تبْحرُ بنا وبهم عُباب الأَمواج، فينزل البعضُ عندَ أَوَّل مرفأ، ويتابعُ الباقونَ معنا نحوَ عوالمَ جديدة. بعضُ هؤُلاءِ يتركُ أَثَرًا لا يُمْحى في كيانِنا من جرَّاءِ حبٍّ عشْناهُ معًا أَو عملٍ نجَحْنا به سويَّةً، وآخَرونَ يتركونَ ويرْحَلون، وكأَنَّ وجودَهم كان بلا أَثر، كمَنْ يُزيِّنُ بَيْتَه بزُهورٍ اصْطِناعيَّةٍ تُرْمى مزاجيًّا، فلا عطْرَ يبْقى ولا ذِكْرى. وهكذا تُعيقُ رحلةُ العمرِ بالأَفراحِ والأَحزانِ والانتظارات، بالأَهْلا وسَهْلا حينًا وبلحظاتِ وداع أَحْيانًا. وبيْنَ هذا وذاك نَقِفُ متأَمِّلينَ بِما صَنَعْنا نحن لهؤُلاءِ الذين رافقوا أيَّامنا. أَكُنَّا سببَ سعادةٍ لأحدٍ منهم أَو سبَب شَقاء؟

وتُكْمِلُ سفينةُ الأَيَّام مسيرَتَها ولا أَحدَ يعرفُ مِنَّا في أَيِّ مرْفأ يُناديه المُنادي لينزل، فإنْ صحَّتْ هذه المُشابَهَة، فلِمَ لا نَمْلأُ وقتَ السَّفرِ بالابْتسامِ عِوَضًا عن العُبوس، بالضَّحك عِوَضًا عن البُكاء، بالمُسامحَةِ عِوَضًا عن الأَحقاد، بطيبِ الأَثرِ عِوَضًا عن سوءِ الخبَر، وهكذا لا نترُكُ السَّفينةَ إلَّا وقد تركْنا في قلوبِ مَنْ سيُكْمِلُ الرِّحلةَ حلاوَةَ المقال ووسْعَ المجال، وطمَأْنينةَ البال، فيشكرون الله على أَنَّنا كنَّا وإيَّاهم، كما شكرْناه على مَنْ كانَ معَنا سببًا يزيدُ من حلاوَةِ الحياة.

وهنا يحضرني سؤال: كم من النَّاس الذين عايَشْناهم، عانَيْنا من قِصَرِ نَظَرِهم ومن غَيْرتِهم العَمْياء، ومن كبريائِهم وتبجُّحهم واستغْلالهم للمناصب، وكم صبرْنا عليهم وصمتْنا عن أَذيَّتِهم، وكم رأَيْناهم صِغارًا مَهْما رفعَتْهم الظُّروف، لأنَّنا نُؤْمِنُ بأَنَّ مَنْ لمْ يولَدْ كبيرًا وحُرًّا، عَبَثًا تفْعَلُ الأَيَّامُ كيْ يكبرَ جَوْهَرًا ويُحرَّرَ قلبًا وعَقْلًا. وعلى العكس من هؤُلاءِ الذين صَبَغوا أَيَّامَهم السَّوْداء ضحكًا مُصْطَنَعًا وأَلوانًا عابِرَة، كانَ آخرون سببَ فرح كبير وسَنَدٍ قدير، بهم نَسْتَأْنِسُ وإلَيْهم نأْتي حامِلينَ مَعَنا ما تتقاسمه وإيَّاهم من أفْكارٍ تجولُ بالبال، وهمومٍ تُثْقِلُ وَهَنَ الحال، فينقلِبُ معهم عكِر الأيَّام بَهْجَ الصَّفاء، ويذهبُ باضطراب النَّفسِ طيبُ اللِّقاء. معهم نسمعُ صَوْتَ المعلّم السَّماوي يقول: السلامَ أَسْتودعكم، بينما يأْتي آخَرون بنقيقِ النّفاق ونَعيق الشّقاق وكأَنَّهم ما عرفوا الحبَّ يَوْمًا ولا ابتلَّ قلبُهم بندى الرّفاق، فكان وُجودُهم غربةً في سفينةِ العمر، معهم ومن دونهم نتابع الرحلة.

اترك رد