المشهد الثقافي في لبنان يتأرجح مابين النرجسية القاتلة وثقافة الانفتاح عبر الوعي المعرفي والإنساني

 

سأبدأ مداخلتي بقولٍ للشاعرِ الأمريكي وولت وايتمان وقد عُرف بنزعته الإنسانيةِ وميولِه الديمقراطية، وعدائه للرّق، كما ولُقب برسول الحرية. حيث قال في المساواة “كأنما يؤذيني أن يُعطى الآخرون الفرصَ والحقوق نفسَها التي تُعطى لي، كأنما لم يكن من الضروري لحقوقي الخاصة أن يكون للآخرين الحقوقُ نفسُها”.

ومنه نجد أن إشكالية الأنا والآخر تحثّ خطاها بعمق لتبثّ التشرذم في المشهد الثقافي اللبناني، ومع كَثْرةِ المنتديات والجمعياتِذاتَ الصفةِ الثقافية والفكرية والإعلامية التي تخبرنا أن هناك جيوشًا جرارةً من المبدعين، نرى ضبابيةَ الشروطِ الحقيقيةِ للمبدع، كما نلاحظ أن هناك بعضَ احتكارٍ لبعضِ أسماءٍ تتكرر استضافتُها في هذا المنتدى أو ذاك، فهل تبحثُ المنتدياتُ بشكل جديّ عن أصحاب المواهبِ المغمورةِ، وهل تُعنى بدعمهم وصقل مواهبهم، أم أنها تكتفي بالشِلَليّة التي تعاني منها الأوساط الثقافيةُ بشكل عام في وطننا العربي؟وهلللسياسة في الثقافةأدوارٌمؤثرةٌتلعبُهافيالإنحدارِنحوقمةالتعصبوالنرجسيةِ؟

ناهيكم عن الحضور الذي تعوّد عدمَ الإصغاِء وعدم احترام الوقت المحدد للأمسيات أو أية فعالية تقام هنا وهناك.

لذا ومن أجل أن نبني قيّمًا حضارية للإرتقاءِ بإنسانيةِ الإنسان، لابدّ من النقد الذاتي الذي من خلاله نستطيع تأسيسَ ثقافةِ الانفتاح عبر الوعي المعرفي والإنساني، فلا نتسامحُ مع أنفسنا ونظلم الآخر، بل نتحدثُ عن أخطائنا مثلما نتحدثُ عن أخطائه كي نفسحَ المجالَ لإنعاشِ المشاعرِ الإنسانيةِ الإيجابية، التي تعملُ على رسمِ صورةٍ متوازنةٍ للآخر، مثلما نحاول رسمَها لذواتنا.

ومثلُ هذا النقد لن يكونَ مؤثرًا إذا لم يعتمد على احترم التعددية الفكرية التي تشكل وعيَه وإحدى دعائمِحضارته، فنحن كمثقفين عرب شوّهنا صورةَ خطابِ المثقفِ العربي الذي يدافع عن هويته، بسبب افتقارنا للنقد الذاتي، الذي هو بحدِّ ذاته حرية، فحققناما قاله مونتسكيو “حتى الحريةُ تبدو غيرَ مقبولةٍ لشعوبٍ لم تعتد الاستمتاع، تمامًا كما يؤذي الهواءُ النقيُّ أولئك الذين قضوا حياتَهم في دولٍ تكثرُ فيها المستنقعات”.

وبحكمِ أن والدتي لبنانية فعلاقتي ببيروتَ لم تنقطع منذ طفولتي التي كان لها النصيبُ الأكبرُ في أن أقضيها في ربوعِ لبنانَ الأخضر، وقد بعثت بي دمشقُ إليها لأعيشَ الوجعَ الإنساني الأعمق، فرأيتُ الشعرَ حزينًا، وألفيتُ الكلمةَ تهادنُ تلاطمَها مابين الآذانِ الصاغيةِ والأفواهِ المشغولةِ بمضغالطعام، لتتساقطَ حروفُ اللغةِ العربيةِ على عتباتِ خرخرةِ الماءِ في النراجيل، وقرقعةِ الصحون المتبادلة على الموائد!أفلا تستحق منا الكلمة شعرًا أوقصة وبحثًا أن نستضيفها في قاعات خُصصتْ للإصغاء فقط، أليس باستطاعتنا تأجيل الأكل والتدخين لما بعدَ الأمسيةِ أو الفعالية المقامة؟صحيحٌ أن ساتر و ديبفوار كانا يجلسان في مقهى ثقافي في باريس بحضور نخبةٍ من الناسِ ليستمعوا إليهما، وصحيحٌ أن فكرة المقاهي الثقافية موجودة في بيروت منذ الثمانينات، لكنها الآن تحولت إلى تجمعاتٍشِلّلية مدمرة، ليس للثقافة والحوار الفني سوى مرورٍ طفيف لا يغوصُ في الأعماق، لأن الهدفَ من هذه المطاعم والمقاهي هو التسليةُ وتمضيةُ الوقت، فهل سألنا أنفسَنا يومًا، كيف نطور لغتَنا وأساليبَ التعبير وقواعدَ النحو؟ سيما أن ليس كل مايقال بالعامية زجلاً، فالزجل يعود أصلُه إلى العصر الجاهلي، ومن أشهر الزجالين الشاعرة الخنساء، فأين نحن منها الآن، ومن موسى زغيب، أسعد سعيد،وإدوار حرب وغيرهم من الأسماء التي كان لها بصمةٌ مميزة في الزجل والقول؟

وبالعودة إلى الأرزة وأشجار الشيح فقد شكوت لها عنصريةَ البعض فربتت على كتفي ورسمت بفوحِ أريجِها طيفًا لجبران خليل جبران ومخائيل نعيمة، أمين الريحاني، وإيليا أبي ماضي رشيد أيوب، وآخرين اشتهروا بالمهجر. فأين هي وزارة الثقافة في لبنان التي أشعر وكأنها في سبات عميق، أولعلها ليست معنيةً بالحراكِ الثقافي الذي يشهدُه لبنان في الآوانة الأخيرة؟

وأخيرًا وليس آخرًا: الاستسهالُ في الكتابة طريق إلى الرداءة، وكي تكون مبدعًا، عليك أن تأتي بقربة فارغة، وتنفخ فيها وتنفخ، وتظل تنفخ حتى تتجمع من أبخرتك غيومٌ تمطر ماءً تملأُ القربة وتروي الحياة.  

****

(*) ألقيت في ندوة “الحراك  الأدبي في لبنان: واقع وتحديات وآفاق” من تنظيم ملتقى المرأة الثقافي في 9 مايو 2018. 

اترك رد