مِن عاداتِنا المحبَّبة في إلقاءِ التَّحيَّة قَوْلُنا لبعضِنا البعض «الله معكم»، وبهذه البساطة توجَّه الملاكُ بالتحيَّة لمريم العذراء قائلًا «الربُّ مَعكِ». ومَن يعرفُ أَكثر من الملاكِ حقيقةَ الأُمور، وهو المخلوق من دون ثقل التُّراب، فحينَ قالَها لمريم كان واثقًا من كلامِه، مؤْمِنًا بمفاعيلِ هذا الكلام. كانت مريمُ تعرفُ أَنَّ قلبَها لله وعقلَها وعواطفَها، ولم تكن لتشُكَّ لحظةً أَنَّ الله ليس معها، ولكنَّها عندما سمعَتْ ذلك الكلامَ من الملاك، أَعتَقدُ أَنَّها شعرَتْ بأَنَّها تمْتَلِكُ الأَرضَ ومَا علَيْها، وتَرْنو إلى السَّماءِ بعَيْنِ الشَّوْقِ وكمالِ الحبِّ. ولم يطل الحديث حتى أَعلنتْ أَنَّها أَمَةُ الله، وإنَّ إرادتَها الْتَقَتْ تمامَ اللِّقاءِ بإرادتِه، فكانَ مَا كانَ وبدأَ فِعْلُ الخلاصِ بالزَّمنِ بَعْدَما كان مُنْذُ الأَزل في بالِ الله.
ونحن اليَوْم حينَ نسمعُ من مُلْقِي التحيَّة كلمةَ «الله معكم»، ماذا ترانا نشعرُ أَمام تَرَدُّدِ هذه العبارةِ في بالِنا وقلبِنا وعقلِنا؟ نسمعُ ثمَّ نعودُ إلى مَا كُنَّا فيه قبلَ السَّماعِ وكأَنَّ شَيْئًا لم يكُن؟ تُرى باتتْ هذه الكلمةُ واحدةً من الكلماتِ التي لا وَقْعَ لها في ضمائِرِنا، نسمعُها كما نسمعُ أَيَّ كلمةٍ أُخرى فلا نهتمُّ ولا نتأَملُّ بما لها من قوَّةِ فعلٍ في كيانِنا؟ ترى صَمَّ الترابُ آذانَنا وقسَّى قلوبَنا وأَعْمَى عيونَنا حتَّى بِتْنا لا نسمعُ أَو لا نعي ما نسمع؟ أَجل، لقد أَخذَ التُّرابُ الذي يعبَثُ بكيانِنا أَشكالًا شَتَّى، منها همومُ الحياةِ ومشاغلُها، ومنها التقنيَّاتُ التي تُشغِلُ عقلَنا وبصرَنا وأَيدينا وتُلْهينا عن كلِّ ما هو خلفَ هذا الذي يُرَى، مُسْقطين من حسابِنا كلَّ ما لا يُرى بالعَيْن، مُغمضين أَعْيُنَ الإيمان، على الرُّغم من أَنَّنا نردِّد في قانونِ الإيمان، حين نَتْلو آياتِه ونقول: «نؤْمنُ بإلهٍ واحدٍ آبٍ ضابطِ الكُل، خالقِ السَّماءِ والأَرْض، وكلّ ما يُرى وما لا يُرى». نقولُها باللِّسان، وغالبًا ما لا نقفُ عند ما تَعْنيه بالنِّسبةِ إلينا، وإنْ كنَّا نفهمُ بعضَ الفَهْمِ ما تَعْنيه بالنِّسبة إلى الله الآب. نقولُها وكأَنَّ الأَرضَ التي خَلَقَها الآبُ جَعَلَتْنا نتغافلُ عن السَّماءِ التي خلَقَها أَيضًا لنا، فنكتفي بما في الأَرضِ وما علَيْها، جاعِلينَ منها، أو مُعتقدين، أَنَّها وَحْدَها مصدرُ سعادتِنا وسببُ حلاوةِ حياتِنا مُسْقطين من حساباتِنا كلَّ الآنِيَّةِ التي تُحدِّدُ كلَّ ما يُرى، بَيْنَما الدَّائم والأَبديُّ والأَزليُّ قائمٌ في ما لا يُرى.
أَلَيْسَ هذا واحد من الفروقاتِ السلوكيَّةِ بَيْنَنا وبين العذراء التي سمعت الكلمةَ ذاتَها التي نسمعُها نحن، فجعلَتْها تتواصلُ مع السَّماء، قَوْلًا وفِعْلًا، من دونِ أَنْ تحرمَ الأَرْضَ من نِعَمِ وجودِها، ولا الجنسَ البشريَّ من كَوْنِها واحدة مباركة من أَبنائِه.
قالتْ مريم «نعم» وكانتْ إرادةُ الله كلَّ ما تطلبُه وما تَبْتَغيه، لمُجرَّدِ سماعِها لمَرَّةٍ واحدةٍ كلمةَ «الربُّ معكِ»، بَيْنَما نحن نسمعُ الكلمةَ ذاتَها لآلافِ المرَّاتِ ولا نقولُ «نعم» لإرادةِ الله، مؤثرين إرادتنا أَو إرادة واحدٍ من النَّاسِ أَطَعْناه أَو أَحْبَبْناه أَو خِفْنا منه.
نقولُ «لا» لأَنَّ الْتِصاقَنا بأَثقالِ الأَرضِ باتَ مُمْعِنًا في اجْتِذابِنا حتَّى تلَهَّيْنا عن مَجْدِ السَّماءِ بأَطايِبِ الأَرضِ في المآدبِ والمكاسبِ والمناصب، واستَسْلَمْنا لرغباتِ الجسدِ وما فيها من المتعِ المُبْتذَلَة، فإذا حَكَمْنا تَحَكَّمْنا، وإذا تسلَّمْنا سلطةً تسلَّطْنا، وإذا ائْتُمِنَّا على العدالةِ، عَدَلْنا عن القِيامِ بواجِبِنا، وإذا سمِعْنا لعازر ينادي مُسْتغيثًا قَسَّيْنا قلوبَنا، تُرى في كلِّ هذه يكون الربُّ معنا؟ أَم نكونُ نحن قد اسْتَغْنَيْنا عن وُجودِهِ وتنكَّرْنا لعَطاياه، وَدَفَنَّا الوزناتِ التي أَعْطانا إيَّاها في التُّراب؟
فَيَا مريم، ونحن في شهر أَيَّار المخصَّصِ لإكرامِكِ، أَيْقِظي في كلِّ واحدٍ منَّا بعضًا ممَّا كانَ في قلبكِ حينَ سمعْتِ صَوْتَ المَلاكِ يقول: «الربُّ معكِ».