ربيعة أبي فاضل، وَحْدَها الحكمة، دار نلسون، لبنان 2017
حينَ التقيتُه يوم السبت 21 نيسان الجاري، خلال الأمسية التكريميّة التي أقامتها “جمعية حقّ وخير وجمال” في محترف الفنان أدهم الدمشقي في بكفيا، بتنظيم من رئيستها د. فاتن المر، التي قدّمت له باسم الجمعية درعًا تكريمية، قال لي: “أردت أن أُهدي نفسي هذا الكتاب”*، ثمّ قدّمه لنا جميعًا. كان يوم عطلة، لم أحتمل الانتظار، ما أن غادر ضيوفي، حتى أسرعت إليه أرتشفُ كلماتِه بنهمِالظمآن، أو المشتاقِ لفنجانِ قهوة أو كأسِنبيذ.
في رِواقِ الروح
حملْتُ الكتابَ، اجتزْتُ معه الجسرَ الفاصلَ بين الناسِ والعزلة، دخلْتُها خاشعةً تائقة، رفعْتُ المرساة، وأبحرْنا معًا… أنشدْتُ معه تسبيحتَه، قانونَ إيمانه؛هو قانونُ الانسانيّة العطشى للسلام:
“لو كنتُ أومن حقًّا، بالله، لما كَرِهْتُ أحدًا
لو كنتُ أومن حقًّا، بالله، لما كفَّرتُ أحدًا
لو كنتُ أومن حقًّا، بالله، لما قَتلْتُ أحدًا!” (ص 13)
“وَحْدَها الحكمةُ” مفتاحُ كلِّ الأبوابِ المغلقة، وَحْدَها تفتحُ لنا أبوابَ الخير والسلام،
“وَحْدَها الحكمةُ تحرِّرُنا من ضيقِ الزَّمان، وتردُّنا أبناءَ الروح،
“وَحْدَها الحكمةُ تعرفُ أنّ الإبداعَ انسجامٌ مع النِّظامِ وليسَ ثورةً عليه”. (ص 15)
وَحدَها الحكمةُ تقودُنا الى تأمّلات نورانيّة:
“عبثًا نبحثُ عن عروبة راقية… ما لم تخلع المجتمعاتُ العربيّةُ كراهيَّةَ الدين، وتلبَسُ الحُبَّ، واحترامَ الآخرين لباسًا أبديًّا.” (ص 18)
“وَحْدَها الحكمةُ”، تأمّلاتٌ يولِّدُها رَحِمُ شمسِ المعرفة، ويضمحلُّ أمامَ نورِها أيُّ نور يسعى للإشادة بها أو حتّى الدلالةِ عليها،لأنَّ النورَ لا يحتاجُ لمن يضيءُ عليه، أو يشيدُ به، يكفي أن نتطلّعَ إليه لننعمَ…
“وسِّع فضاءَ قلبي” (ص 11)،صرخةُ شوقٍ الى الحب، توقٌ الى الصفاء، والبهاء، والرجاء: “متى ينكسرُ السرُّ بيننا، وتطلُّ الوحدةُ من دنيا البهاء، ويستلقي الرجاءُ على فراشٍ من نور، في حديقةٍ من نور، في ملكوتٍ نورانيّ!؟” (ص 19) لهذه الأرض، الحمل المذبوح، الحمل الضال، لهذا الكوكب الذي اختاره اللهُ لنشر نوره، يستجدي الرحمة والمعجزة، لإنقاذِهِ”قبلَ فوات الأوان!” (ص 20).
في رِواقِ المعرفة
وبعد أربعين سنة من التعليم أدرك أنّه إنّما كان يتعلّم… وأدرك “أنّ الإِخلاصَ في العمل يَزيدُ الكونَ غِبطةً، والسَّماءَ قُربًا، والأرضَ سعاده/ أنَّ الوداعةَ تُحرِّرُ من الألم، وترتقي بالذات نحوَ القِمَم!” (ص 21)
أستاذي، يبدو أنّ الأرواحَ متى تعبّدت للنور تتشابه، فلا تكادُ تفرّقُبينها! نورٌيوصلنا الى تساؤل ينطوي على الإجابة عنه، إذ “كيف لي أن أعرفَ اللهَ وقلبي يجهلُ الإنسان؟!” (ص 23)
في تأمّلاتهِ النورانيّة هذه،عانقَ الحكمةَ الأزليّة، مدوّنًا لنا عصارةَ مشاهداته واختباراته، حيث لا يقوم الخيرُ على الكثرة في كلّ شيء… وإنّما على ما في القلب من نقاء وطُهر! (ص 23)”حتى يُزهرَ الملكوتُ في الحياة”. (ص 24)
شيخُ العزلةِ ربيعة، جعلَ من ذاتِه زادًا للكثيرين، بحبٍّ صافٍ، فجنى الخيرَ العميم. نسلَ المعرفةَ من روحِهِ وقدّمَها للناسِ قوتًا.اختارَالزهدَ والتعبّدَ في هيكلِ الحبِّ الأسمى، ففاضَ نورُ الله من ذاكَ المعبدِ غامرًا مساحاتِ روحِه المتجرّدةِ العاريةِ، بقَبَس من ذاك النور، فارتمت مستسلمة في حضنِ الآب الرحوم، متحرّرةً من كلّ ما يعتري المرءَ، أوانَ الغيابِ، من خوف: “وتعلّمتُ أنْ غدًا، حينَ يبكي جرسُ الكنيسة… وأرقُدُ كحكايةٍ غريبة، وسَطَ الصَّلوات، …أُشرق شمسًا في عالم رائع! …وعندما ينتهي النصُّ، وتستريحُ النفسُ… أكونُ قد عبرْتُ طريقَ الحُلُمِ والحياةِ الى وجهِكَ، الى حَنانِ حضورِكَ، الى نورِكَ، الى الرَّحمةِ التي تغسلُني بزيتها، الى الجَمالِ الذي يُطهِّرُني مِنَ البشاعات، الى الآب الذي يغفِرُ لي كلَّ أحزاني وآثامي، وَقُشورَ أيّامي…” (ص 25 – 26)، فتتحوّل لحظةُ الغياب الكئيبة الى عرسٍ سماويٍّ بهيج!
ربيعة، روحٌ ساجدة أبدًا بتُقًى؛ عاشقُ الدهشةِ، معانقُ المعجزاتِ المتعمّدُ بالحبِّ الأسمى، حيث “الحبّ وحْدَهُ، يَكسِرُ غُربَةَ الإنسانِ عَنِ الله، وغُربةَ الإنسانِ عنِ الإنسان، وغُربةَ الإنسانِ عَنِ الطبيعة، والكون!” فـ “الحبَّ هو الله!” (ص 27)
“وَحْدَها الحكمة”، توراةُ ربيعة وإنجيلُه وقرآنُه.
“وَحْدَها الحكمة”، خلاصُهُ وطريقُ عبورِه ودارُهُ.
علّمته التفاؤلَ بالشمسِ والربيعِ والبحيراتِ وأجراسِ الإيمانِ والولادةِ المتجدّدة؛ وتناغم المحراث مع سمفونية السلام، حيث يضمحلّ كلّ موتٍ وكلّ حقدٍ وكلّ كذبٍ وكلّ كآبة. وعلّمه “الواحد، الحقّ، الرحمن، الحكيم، المحبّ، الحنّان، الأحد، الرحيم، الروح الذي ينفحُ الروح…” (ص 31) كما يقول: “أن أرتّلَ وأصلّي ، وأقول: …ربّاهُ خذ روحيوألبسْها أناشيدَ البهاء!” (ص 32-32)
في حضن أمّه… الحكمة
ثمّ يُزهرُ حضورُ مريم، وحضورُ أمِّه؛ أمُّهُ التي علّمتْه
“أنّ حضورَها في قلبِ(هِ) يزهرُ مع الفصول!
“أنّ الفجرَ لا يزاُل يَطلُعُ من يديها، وعينيها!” (ص 41)
بكلّ ما فيها من خيرٍ وعطاء وتضحيات…
ويظلّلُه حضورُ الأبِ الغائبِ الحاضر، المشرقُ برغم الغياب، فتدبُّ الحياة حيثما مرّت عصاه، وكأنّه ربيعُ العمرِ الذي لا يغيب، حيث “البُعدُ عن الدنيا قرب من الله!”
ربيعة التلميذُ الوديع، المتأمّلُ في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاتِ الوجود، يحتضنُ الدنيا بعشقٍ وإجلال، قبلَ أن يحتضنَهُ صديقُهُ الموت، ليضمَّه ُالى حياةٍ جديدةٍ “في الضفّةِ الثانية”، حيث يخلعُ ثوبَ الزهرِ ليلبسَ جسدَ الروحِ وينطلقَ في الأفقِ الآخر الربيعيّ! (ص 46)
“وَحْدَها الحكمة”، نسيجٌ تتزاوجُ خطوطُه الأفقيّة مع العموديّة، متعانقةً كالصليب، رابطةً الأرض بالسماء…
ويرتفعُ النشيدُ الطروبُ مغرّدًا، نشيدُ الحكمةِ المنبعثةِ من الجنون! يناجيها صارخًا: “صلّي معي، يا من جعلتِ الرمّان يُدَوَّرُ، والتفاحَ ينحني من ولهٍ، وإشراقاتِ عشقٍ، ورحيقٍ، ونظرٍ لا يعرفُ الغمّ!” (ص 54-55)
من حكمة الحكماء يغرف حكمة، يعانق أنوالَهم، وكخيطٍ جديدٍ تستلُّه الحكمة، تشدُّهُ الى نولها، تستخدمُهُ ليكتملَ ثوبُها! فيهتف بين يديها، منشدًا نشيدها: “لا أصدّق أنّي أزور الأرضَ، وأفنى، لأنّ الذي أيقظَ روحي، وأحبّني، ينتظرني!” (ص 78)
على عَتَبات رِواقِ العالم
وينهي رحلته مستريحًا في فيءِ الكلمات، يظلّله الخيالُ والحلمُ بأغصانهما؛ وقبلَ أن تداهمَهُ العتمة، يضيء قنديلَ الحكمةِ من زيتِ “وليم بليك وجبران وطاغور” (ص 90) ليصلّي صلاتَه الأخيرة، ممّا تعلّمه من مزاميرِ هذا العالم!
****
(*)ربيعة أبي فاضل، وَحْدَها الحكمة، دار نلسون، لبنان 2017