“دون أنطونيو” لإيلي مارون خليل:  

  اَلذَّاتُ البطلة بين الأَرض الأُمّ وَحُلمِ المُغامرة!

                        

             

قال فرويد: “في مقام الخلق الرِّوائيّ أَو القصصيّ أَو التَّاريخيّ ثَمَّة ميزةٌ طاغية، وَهْيَ وجودُ بَطَلٍ محوريّ، يَسعى الكاتبُ لجعلنا نتعاطفُ معه، بشكل حارّ، ويُشعرنا بأنّه شخصيّةٌ محوطة بنعم نادرة”.([1]) وَيُمثّل البطل هذا، واقعًا، يُحاول الرّوِّائيُّ، من خلاله، كشفَ الصِّراعاتِ القائمة، والتَّحدِّيات، ومحاولة تغييرها، عَبْر هدمِ دائرةٍ مَعيشة، وبناءِ حياةٍ جديدة، على أَنقاض تاريخ شاخ، وتلاشى…

ويَتمُّ ذلك بقوّة حلم شخصيّ فَعَّال([2]). الأَمر الّذي يبرهن، بما لا يقبل الشّكّ، أَنّ الّذي ينسجُ فضاءَ الرِّواية، يُدير اللُّعبة، بوعي لافت، طارحًا رؤيته إلى العالم، محاولاً بحكمته، إسقاطَ تناقضاتِ الخارج، وتحويلَ مآسيه إلى فرص لبطولات جديدة([3])، هذه الفرص قد لا تتحقَّق في دنيا الخارج، نظرًا إلى عدم قدرة الذّات، مهما بلغت بطولتها أَو بلغ تخيّلها أو المدى الأَخلاقيّ لديها، على إِعادة خلق العالم([4])… لكنّ ما يتحقَّق هو أنّ سحرَ الكتابة، وجمالَها، قلّص الصّراعَ الحادّ بين مثال الذّات وواقع الزَّمان والمكان. أَوَليست معركة الرِّواية، أساساً، ضدّ تسلّط الزّماّن؟ ([5])

لقد اكتشف الكاتب إيلي مارون خليل بطلَهُ، طنوّس حنّا القزيلي، من خلال تاريخ عائلته، وبلدته، وطى الجوز، وتتبَّع تاريخه بين فضاءَين: ضيعة الوطى حتّى العشرين، قُبيل الحرب الكونيّة الأُولى، والبرازيل، بعد أَن أقنعه أَنطون البلّاط، ابن القرية المهاجر ([6]). وعندما سأله أَخوه فرنسيس أن يبقى، كي لا يتركَهُ مع أختهما مريم، قال إِنّه يحلم بالعمل والمال، ثمّ العودة([7])، وإنّ الحياة لا تكون إلاّ للمغامرين([8]). وتفكّر في مصير الّذين صرعهم الجوع، في الجبل، ونَهشتهُم الوحوش، وفي الّذين تحوَّلوا عن دينهم سعياً لرغيف خبز([9]) وفي بني آدمَ كيف تردّهم الحروب ذئابًا([10]) . وأَهمّ ما شغل لاوعيه، وهزَّ كيانه، هو ظلمُ إِلاقطاع، واستبداده ممثَّلاً بالمشايخ منصور، وهادي، وصخر، فعاش هاجس الثَّورة للحدّ من نفوذهم ([11])، خصوصًا وأَنّ أباه حنّا مات بالسُّم على يد الشَّيخ منصور. وطنّوس المنغلق على نفسه، والحّر كنسر، وذو العنفوان، لا ينحني.([12]) أَبحرَ عَبْرَ السَّفينة برِينيس، مؤثراً المجهول على الجراد، والقهر التركيّ([13]).

إِنَّ روح التّحدِّي، والمغامرة، والحلم والطّموح ([14]) حَدتْ طنّوس على ترك أرضٍ أَحبَّها، لكنّ رحلته نحو الغربة، فرضت صعوبات قاسية، منها: مواجهةُ أَتراكِ السَّفينة، ولصوصِها، التعرّضُ لتجارب نساءٍ كثيرات، بعد أَن ترك هيفا الّتي يحنّ إليها في الضَّيعة، جَبْهُ عصابة المغارة، وفسادِها، و”جمعيّة السّنابل الذهبيَّة” وإجرامِها، والمافيات، ومحاولاتِ سلبهِ، واغتياله… واضطرارُه إلى ترك البرازيل، كي يتحرَّر من العصابات الّتي تبتزّه، وتُطارده، وهي قادرة على كلّ شيء … وعلى الرُّغم من تغيير اسمه، فغدا دون أَنطونيو ضحيَّة الّذين خطفوه، وعذّبوه، وشاؤوا أن يشاركهم في المخدّرات، والميَسر والعربدة، مرُدّدين: “نحن مَنْ يقرّر، وأنت أداةُ التّنفيذ”، فكان موقفه الثّابت: “أُريد أن أبقى حُرّاً، لا أريدُ أن يحتويني أَحد… إنّي لا أُخالف وصيّة الله… لا أُريد شيئاً منكم، ولا منهنّ، ولا شيء أبدًا. وذكّرهم بأنّه من وطى الجوز، قرية الكرامة والأنفة([15]). وفي تماهٍ بين الكاتب وبطله، لحظ الاثنان أنَّ المنتمين إلى الجمعيّة السّرّيَّة، وعلى رأسهم ميغال، وسقراطيس ولويس أَلفونسو، يستخدمون آيات الإنجيل، دعمًا لسلوكيّاتهم الشّرّيرة، وَيُكثرون الحديث عن القيم لتحقيق مآربهم الفاسدة ([16]). وما أكثر ما استغلّوه، في ميدان المُلاكمة، فحاول التّمرّد على نفاقهم، وعلى إرهابهم([17]).

وسَطَ هذه المعاناة، في الغربة، كان الأَلم يعصر قلبه لأَمرين: استحالة العودة إلى جبل لبنان، وعدم الإنجاب([18])، وهكذا، تركَ نفسه في الاتّجاه ، ونقيضه، كما قال، وحتّى الانتصارات على الحلبة، تَحّولت إِلى وحشة، وانكسارات([19])، وتراكمت حالات متُناقضة في داخله([20])، ما زاد تمزّقه، لأَنّ شرّ الاقطاعيّ القاتل، في وطى الجوز، تمثلّ بعنف مَنْ يعبدون المال، ويُديرون عصابات الفساد، في الخارج([21]). إنّه صراع لا يُحتمل بين الذّات وذاتها، والذّات والعالم، وزمان الذّات، قرب جرس الكنيسة، وزمانِها بقرب الرّمز القاسي القلب- ميغال([22]). غربةٌ غامرة، وقلقٌ، وحالٌ من الصَّلب يُعايشها اللُّبنانيّ، هنا، أَو قل حالٌ مَن الفراغ، تُبعثر علمه، وطموحهُ، وتتركه في حيرةٍ وضياع، فلا الأرض الّتي اشتراها، في الجبل، وضعت حدًّا لِلإقطاع([23]) ولا أَموال الملاكمة والبطولة وضعت حدّاً للقلق، وسْطَ المافيات([24])، سواء في البرازيل أو الأَرجنتين. قال يونغ في مثل هذا المُناخ: “إنّ المتناقضات لا تنصهر، وتولّد انسجامًا ووحدة، إلاّ إذا دخل عليها عنصر جديد مختلف عنها، يمتصّ ما هو متعارض، من دون أن يذوب في أيّ منها. وهذا أَمر لا نتخيّله، عادة، لكنّ الحياة هي الّتي تضعه”. وماسمّاه la déchirure des opposés”” لا يعالَجُ إلاّ بالرَّمز – الحقيقة الحيّة، الحارَّة.

« Où s’unissent les opposés en vue d’un mouvement nouveau, ruisseau qui, après une longue sécheresse, répand la fécondité »([25])

ومعنى كلّ ذلك أَنّ الألم أَو القلق، ليس مرضًا، لكنَّه المعارضُ الطَّبيعيّ للغبطة أَو السَّعادة، ولعلّ الحلّ الوحيد للقلق الكيانيّ، ليس هو ما نتخَيَّلُه، أَو نبدعه بالكتابة الإبداعيّة، مهما بلغ رواقها، ورقيّها، لكن بنعمة خارقة تُجدّد خلايا الروّح فينا:

« Ce qui soulage l’homme souffrant, ce n’est jamais ce qu’il imagine lui-même, mais seulement une vérité qu’il ressent comme supra- humaine comme révélée, et qui l’arrache à son état de souffrance »([26])

ولأَنّ الألم إِذًا، هو في أَصل كلّ إبداع أدبيّ، وكلّ ارتقاء روحّي([27])، فإنّ الّروائيّ، وبطلَهُ، اكتشفا أَنّ الخلاص لا يحصل على مستوى المجموع، لكن في داخل الفرد الحرّ([28])، الذي يقدّس الحبّ بدلاً من الشّهوة، ويعشق أَرض جبله المقدَّس، وقيمه الرّوحيَّة، وتعاليم المعلّم. فدون أَنطونيو حمل رسالة مُرسِلهِ إلينا، وعبَّر عن خطابه الفكريّ والرُّوحيّ، بخاصّةٍ من خلال الصّبر، والاحتمال، والمواجهة، والعزيمة، والعمل بروح الإِنجيل، لا سيّما ما تذكّره طنّوس (ص121)، في الرّوّاية: “أَلا يقول المعلّم: “لا تهتموّا لأنفسكم بما تأكلون، ولا لأجسادكم بما تلبسون… اُنظروا إلى طيور السَّماء فإنّها لا تزرع ولا تَحصُد وأَبوكمُ السَّماويُّ يَقوتُها، أَفلستم أنتم أفضلَ منها… أطلبوا أَوّلاً ملكوتَ الله وبرَّه، وهذا كلّه يُزادُ لكم”([29]). واكتشفَ البطلُ، بعد تجارب مُضنية، أَنّ طريق البطولات لا تبدأ بالنّساء، أَو بالسَّهر أَو بالكحول، وأَنّ البطل المستقرّ يكون في جبل لبنان، مزارعاً، بسيطاً بدلاً من أن يكون سجين القلق الدّائم، في عالم الصِّراعات على المال، والجاه، والسّلطة([30]). ولأَنّ حلم الهجرة إلى البرازيل، تبدَّد، من خلال الخيبات المتراكمة، راح دون أنطونيو يبحث عن حلم آخر، عندما غدتِ الأَحَلامُ، في حياته، هي أَبوابَ انطلاق الرّوح إلى الأَفاقِ اللانهائيّة([31])، إلى سعادة تختلف عن “سعادة” عالم السّفينة، والغربة، والجمعيّات السِّرّيّة، والتّحكّم بالصّحافة، والقضاء، والجرائم اليوميّة، والإقطاع الشّرس.

وبعد، ومع انحسار المأساة، والملحمة، تربّعت الرِّواية على عرش الأَنواع، وأفسحت في المجال، لاحتضان الشّعر، والحكمة، والأقصوصة، والحكاية، والتّقاليد، وتسيَّدت حقول الإبداع في إنكلترا، وألمانيا وفرنسا، وقد قيل:

« Le roman est le maître, il a tué l’épopée, absorbé la philosophie,, détrôné le pamphlet »([32]).

ولكونها باتتِ الرَّحمَ الّتي تَّتسع لكثير من الولادات، فهي لم تعد مجرّد نوع أَو جنس، بل احتضنت كلَّ شيء، من دون حدود. ودون أَنطونيو رِواية رزينة، بُنيتْ بناءً متماسكاً، وعَرفت كيف تَستثمرُ تاريخنا، ومصيَرنا، وماضينا الّذي يُشبُه حاضرنا، وثقافتنا، وّتغرُّبنَا، وانسلاخنا من أرضنا الأمّ، وعيشَنا مَصلوبين، مَقهورين، لا بابَ حُرّيّةٍ أَمامنا سوى رحلةِ الرّوح، في ظلّ الخيبة، بإزاء رِحْلات الغربة المكانيّة، بحثاً عن ثروات، حذّر إنجيل متّى من أن تكون هي المقدّس، وهي الجوهر. ودون أنطونيو، الّذي اكتشفه الرّوائيّ، هو رمز ما آلت إليه “بطولات” الموارنة، في هذا الجبل: فلا إنجاب، ولا أَرض، ولا استقرار، ولا رقيّ روحيًّا بل مالٌ، وجاهٌ، ورفاهية، وبيعُ أَراض، وهجرةٌ، وتَراخ بإزاء النّذور الرّهبانيّة والنُّسكيّة، والقيم، وحياة الرّوح. منذُ عام 1923، سأَلَنا جبران، في نَصّ “النّبيّ”: “ما الّذي عندكم في هذه البيوت… أَعندكُمُ السَّلام… أَم عندكم ذلكَ الجمالُ الّذي ينَتهي بكم إلى الجبل المقدَّس… أَم عندكُمُ الرّفاهيَّةُ… إنّ الإغراقَ في طلب الرّفاهيّة يقتلُ أَنبلَ نزَعات النّفس، ثمّ يَمشي في جنازتها ضاحكًا، شامتًا”([33]). وها هو بطل إيلي مارون خليل يقول لنا، بعد كلِّ هذا التّاريخ “البطولةُ قيمٌ، والحبُّ قيم… الأَرضُ كثيرةُ الوفاء، أَهوى الأَرضَ، ورائحةَ الأرَضِ، وما تُنتجهُ الأَرض… إلى أَينَ يذهبُ هذا الحامل حفنةً من تُراب وطنه؟ يُحبُّ وطنَهُ إِلى هذا الحدّ، وَيَهجُره؟”([34])

نعم يا أخي إيلي، أَنتَ لا تَحمل سلاحًا، ولا تَرفعُ صوتًا بوجه أَحد، ولا تُبالي بمتاهات الحضارة الفانية، ولا تُشْغلكَ المظاهر، ولا تُصفِّقُ، مع القطيع، خلفَ أُمَراءِ هذا الزّمن، ولا تُبَيِّضُ طناجرَ، ولا تمسح جوخًا، ولا تُحابي، ولا تراوغ، وتتألّم، وتُعاني، وتحاور الكلمات، وتتنفّس في حدائقها، لأنّها حقلُنا المتبقّي لتنمية الجمالِ، ولتحصين نوع بهيّ نقيّ ومن الحياة، وللبرهان أنّنّا لم نولدْ تحت الشَّمس لنصنعَ من تعاسات الآخرينَ سعادتنا، ومن تشرّد الأطفال أحلامَنا، وطموحاتِنا. باركَ اللهُ يدَكً، وعينكَ، وطريقك، ومحظوظة  العبارات الّتي تولد في ذهنكَ الصّافي، وتُزهرُ في حقلك الخصب.

أنت تعرفُ، من خلال الواقع المعيش، أن تُشْرِعَ نافذةً موحية ، على معرفة الأخلاق، والقيم، كي  تبنيَ إنسانًا ليس الحاضرُ السّيزيفيُّ، وحده، هو مملكتَهُ، بل الفضاءُ الرُوحيّ المُعَزّي، والمحرِّر لإنسانيّتهِ من متاهاتِ العصر!

                                                                       ( 18- 1- 2018)

*****

([1])     Sigmund, Freud , L’inquiétante étrangeté, Gallimard, paris ,1985, p41.

dans  les  créations de ces narrateurs (auteurs de romans, de nouvelles et d’histoires), il est un trait qui doit nous frapper entre tous, elles ont toutes un heros qui est au centre de l’intérêt, pour qui l’auteur cherche à gagner notre sympathie par tous les moyens, et qu’il semble protéger comme par une providence particulière ”

([2])    Marthe Robert, Roman des origines et origines du roman, Gallimand, paris,1972, p35, 37

([3])    Georg Lukacs, théorie du roman , Gallimard, Denoël, paris, 1968, p 45,84,95,115

([4])   Ib.p136

([5])   Ib.p 121

([6])   إيلي مارون خليل، دون أنطونيو، دارسائر المشرق، 2017

([7])   ن. ص16، 18

([8])   ن. ص21

([9])   ن. ص 22

([10])  ن. ص23

([11])  ن. ص 23، 24

([12])  ن. ص 29، 59

([13])  ن. ص 23 – 24 – 29 – 38 – 40

([14])  ن. ص 21، 28

([15])  ن. ص 38، 39، 47، 125 ، 127، 128، 135 ، 136، 140، 162، 174، 185، 212

([16])  ن. ص136، 162

([17])  ن. ص 104، 105

([18])  ن. ص 178

([19])  ن. ص 169، 175

([20])  ن. ص190

([21])  دون أنطونيو م.س. ص105،104

([22])  ن. ص184،128

([23])  ن. ص185

([24])  ن ص 147، 148، 163، 166

([25])  C.H. Jung, L’Âme et la vie, L.G.F. Paris, 1963, p.270

([26])  Ib. p 273

([27])  Ib. p 272

([28])  دون أنطونيو ص 68

([29])  ن. ص 121                  متى 6: 25 – 34

([30])  دون أنطونيو ص 162

([31])  ن. ص 158

([32])  Pierre Chartier, Introduction aux grandes théories du roman, Armand Colin, Bordas, Paris, 1990, 0 107

([33])  جبران، النّبي، ت ميخائيل نعيمه، مؤسَّسة نوفل، ط 1978 ، ص 42 – 43

([34])  دون أنطونيو، ص 58 / 82، 148، 164ـ 207

اترك رد

%d