محنة المثقف في رائعة إسحاق بابل “الفرسان الحمر”

   

بعد أن هدأت الحرب الأهلية (1917 -1920) في روسيا تناول عدد كبير من الكتّاب الروس موضوعا بالغ الصعوبة والحساسية، وهو علاقة المثقف بالثورة، في وقت أضحى فيه العمال والفلاحون يشكلون عماد النظام الجديد، وانحسر دور المثقفين، وباتوا منبوذين وعلى هامش المجتمع،  وموضع شك وريبة من قبل البلاشفة .

الحرب الأهلية الروسية بين الجيشين المتحاربين – الأحمر والأبيض – هي احدى الحروب الأكثر دموية في العصر الحديث، وقد رافقها ارتكاب أعمال عنف وحشية، واسعة النطاق ، ليس فقط على جبهات القتال، بل أيضاً ضد المدنيين من النبلاء وأعيان الريف والفلاحين الميسورين . وحصدت أرواح ما يقارب ثلاثة عشر مليون انسان .

معظم الأعمال الأدبية التي عالجت  موضوعة الحرب الأهلية كانت روايات بأقلام كتّاب شباب أسهموا في معارك الحرب الى جانب الجيش الأحمر المنتصر، يتغنّون فيها ببطولات المحاربين الحمر في إبادة الخصوم الطبقيين ، ويشيدون بـ (الموجيك) الأمي البسيط ،الذي يضحي بحياته من اجل بناء مجتمع إشتراكي، وصوغ انسان جديد . روايات  تتسم بالرومانسية الثورية المزيفة ، وتزعم ان المقاتلين الحمر كانوا اناسا طيبين يتسمون بالشجاعة والنبل والشهامة ، على النقيض من أعدائهم المقاتلين البيض الأشرار.

ولم يجرؤ هؤلاء الكتّاب على قول الحقيقة المأساوية عن الثورة والحرب التي اعقبتها، ووصف ما شاهدوه وسمعوه على أرض الواقع . ولعل رواية ” تشابايف ” لـدميتري فورمانوف، الصادرعام 1923 أبلغ مثال على هذه الروايات الدعائية. و”تشابايف ” هو اسم  القائد الحربي (الأسطوري) فاسيلي ايفانوفيتش تشابايف (بطل) الحرب الأهلية. وهو الشخصية الرئيسية في الرواية .

أصبح شعار العصر ” نحن  لسنا خريجي جامعات ” وهي كلمات جاءت على لسان تشابايف تعليقا على اطروحة لينين، بأن في وسع أي طاهية ان تقود الدولة . ونتيجة لذلك لم تعد ثمة حاجة الى المثقفين الذين اتهمهم قادة الثورة ، بالتخاذل والليونة ، وعدم القدرة على اتخاذ قرارات  قاسية  لضرب أعداء الثورة بلا رحمة .

وفي خضم هذه الموجة من الأعمال الأدبية الجديدة ، التي تجمّل الواقع المأساوي، جاءت مجموعة قصص إسحاق بابل “الفرسان الحمر” الصادرة عام 1926  لترسم صورة حقيقية للحرب الأهلية، ومغايرة لكل ما كتب عن هذه الحرب، وتزيح الستار عن مآسيها الإنسانية، وهذا لا يعني بأي حال، أن قصص “الفرسان الحمر” هي استنساخ للواقع ، بل اعادة تركيب فني له، حيث يلعب الخيال الملهم دورا بالغ الاهمية في خلق صور نابضة بالحياة، بالغة العمق والتأثير .

تتألف المجموعة من 34 قصة قصيرة تدور احداثها خلال الحملة التي شنها جيش الفرسان الأول  -المؤلف من المحاربين القوزاق الأشداء ، بقيادة الجنرال سيميون بوديوني – ضد الجيش البولوني  المحتل في اوكرانيا الغربية خلال تلك الحرب . وكان الهدف من هذه الحملة هو تحرير اوكرانيا أولاً، ومن ثمّ اجتياز الحدود البولندية واحتلال وارشو من اجل اتخاذها قاعدة لتصدير عقيدة الثورة العالمية الى اوروبا والعالم  .

ولدت قصص “الفرسان الحمر” من تجربة المؤلف نفسه، فقد كان مراسلاً صحفيا ملحقاً بصفوف جيش بوديوني، ويكتب تقاريره الى جريدته باسمه المستعار (كيريل  ليوتوف) وهو أيضاً  اسم الراوي – الشاهد المشارك في الاحداث – في معظم هذه القصص”، وهي كلها تدور حول الحياة اليومية للمحاربين القوزاق في جبهات القتال.

يقول بابل عن هذه المجموعة في يومياته إن “الفرسان الحمر” ملحمة شعرية، وهي كذلك حقاً بجملها القصيرة، وصورها الشعرية المدهشة، واستعاراتها ودلالاتها . نصوص كثيفة ومركزة وصفها ارنست همنجواي بأنها: ” كالجبن الذي عُصِرَ بشدة ليخرج منه الماء تماماً”. والحق أن هذه النصوص تشكل فصول رواية بالغة العمق، باذخة الجمال، وليست قصصا قصيرة متفرقة .

إسحاق بابل

محنة المثقف بين المحاربين القوزاق

كان “الفرسان الحمر” يعتمدون على السكان المحليين –الأوكرانيين والبولنديين والروس واليهود – في تأمين الخيول والمؤن والسكن المؤقت، وكان ذلك يؤدي أحياناً الى صدامات دامية معهم . وكان ليوتوف هو المثقف الوحيد بين المحاربين القوزاق البدائيين الجهلة . لم يكن هؤلاء القوزاق يهتمون، الا بالقتال والخيل والنساء . ليوتوف يرصد حياتهم اليومية وأعمالهم وتصرفاتهم بكل دقة. يصف بطولاتهم في المعارك الضارية ضد البولنديين، وتعاملهم اللاإنساني مع السكان المحليين المسالمين، وتجردهم من القيم الأخلاقية، التي كانوا يعتبرونها من بقايا الماضي القيصري البغيض. كل ذلك في سبيل تحقيق اهداف طوباوية يسعى اليها الحزب البلشفي . يبدو ليوتوف أحيانا معجبا بشجاعتهم واستخفافهم بالموت من دون وجل . وفي أحيان أخرى مرتعباً أمام شراستهم ووحشيتهم في تعذيبهم للأسرى واغتصابهم للفتيات واضطهادهم أو قتلهم للمدنيين لأسباب تافهة.

لم يكن ليوتوف يراقب سير المعارك من مكمن آمن، بل محارباً عاديا يشارك الفرسان القوزاق في قتالهم ومعيشتهم، ولكنه كان انساناً مختلفا عنهم بثقافته ووعيه ، وقيمه الإنسانية، واستهجانه للعنف بكل صوره . وكان محكوما بالعزلة النفسية والغربة بعد ان لمس احتقار القوزاق للمثقفين، حين توجه الى مقر القائد العسكري المسؤول ليسلمه اوراقه وأحسّ بأنه غريب عن الجيش \، ومحل سخرية  القائد والمحاربين . ويتجلّى هذا الإحساس على نحو واضح في قصة “بطتي الاولى”:

“نهض سافيتسكي قائد الفرقة الخامسة من مكانه حينما لمحني قادما . ادهشتني رشاقة جسده العملاق . قام منتفضا ببنطلون الركوب الأرجواني، وقبعته القرمزية المائلة . كانت النياشين تزين صدره ، وتقطع  فضاء الكوخ، كما تقطع الرايات السماء … ضرب الطاولة بسوطه وهو يبتسم ، وبعد أن أنهى قائمة الأوامر التي املاها على رئيس هيئة الأركان ، وقعها مزهواً ورماها الى المراسلين من حوله ، ثمّ أدار نحوي عينيه الرماديتين، وسألني: “هل تستطيع القراءة والكتابة ؟

-نعم . أنا أقرأ وأكتب وخريج كلية القانون في جامعة بطرسبورغ .

-اوه !  اذن انت ابن ماما المدلل . قال ذلك ضاحكا ، ثم أردف – وبنظارة فوق الانف . يا للسخافة. أرسلوك كل هذه المسافة الينا دون استشارتنا ، وهذا اكثر الأماكن خطراً وسخونة. تصور انهم يذبحون أمثالك من الذين يرتدون النظارات فوق انوفهم!”

توجه ليوتوف مع عريف التموين الى المأوى الذي أمر به القائد، وكان كوخا لفلاحة عجوز كليلة البصر، يقيم فيه خمسة من الجنود القوزاق . وحذره العريف من مغبة مخالفة اعراف حياتهم .

استقبله القوزاق بالعداء ، ورموا حقيبته خارج البوابة قتناثرت اوراقه ودفاتره، فأخذ يجمعها في خضوع واستكانة، وأخذ محارب قوزاقي يسخر منه بحركات بذيئة، وسط ضحك الآخرين. كان ليوتوف جائعا، ورفضت صاحبة الكوخ إطعامه، فاضطر الى قتل أوزة كانت تسرح في الفناء، ليس فقط ليسد رمقه، بل ليثبت للمحاربين انه مثلهم، بوسعه ان يقتل عند الضرورة، ذلك لأنك لا يمكن ان تثبت جدارتك امام القوزاق، الا اذا كنت قادرا على العنف والقتل. “تصدع رأس الأوزة تحت قدمي ليوتوف، وتدفق دما”، قال أحد القوزاق: “هذا رجل مناسب لنا”. ولكن قلب ليوتوف كان يتمزق ويعتصر لمشهد القتل. استلقى للنوم مع القوزاق الخمسة في مخزن القش تحت سطح خشبي تضيئه النجوم، ورأى في المنام نساءً، لكن قلبه كان يتوجع لمشهد الدم المراق. ليوتوف الذي قبل في دائرة المحاربين القوزاق، لن يصبح مثلهم ابدا، لأنه حتى في المنام لا يستطيع أن ينسى مشهد القتل.

في قصة “وفاة دولغوشوف”، يطلب جندي قوزاقي مصاب بجروح قاتلة في البطن من ليوتوف أن يطلق عليه رصاصة الرحمة ، لأن هذا هو الخلاص الحقيقي بالنسبة اليه. كانت امعاء المصاب متدلية على ركبتيه ، وتبدو نبضات القلب واضحة. ولكن حتى في هذه الحالة لم يكن ليوتوف راغبا في الاقدام على قتل انسان . وطلب من صديقه المحارب القوزاقي (افونكا) ان ينفذ ذلك بدلا عنه. افونكا وضع فوهة المسدس في فم المصاب واطلق عليه رصاصة الخلاص . ثمّ استشاط غضبا ، واصفرّ لونه لضعف ليوتوف وتخاذله ، وصرخ به:  “اذهب” والا قتلتك . انك تشفق على المصاب – يا ابو النظارة – كما تشفق القطة على الفأرة “. ليوتوف يمثل بالنسبة لأفونكا العالم القديم بقيمه الغريبة عن الثوار القوزاق ، وأنّى لأفونكا أن يدرك أن قوة المثقف في ضعفه الإنساني .

الحرب الأهلية فرّقت العوائل ، وجعلت الآباء والأبناء أعداءً . ففي قصة “رسالة ” نرى  افراد عائلة كورديوكوف مقسمة بين الحمر والبيض . الأب يحارب بجانب الجيش الأبيض وهو قائد كتيبة فيها، في حين أن أبناءه الثلاثة يحاربون الى جانب الجيش الأحمر . أصغر الأبناء سنّاً ، وهو فاسيلي ، فتى يافع يعمل موزعاً للبريد في مقر قائد الفرقة الاولى في جيش بوديوني . وقد  أملى على الراوي رسالة موجهة الى امه . في السطور الأولى من رسالته يطلب ارسال مواد غذائية اليه ، لانه يعاني من الجوع في جو شديد البرودة . ثم يطلب غسل ساق الحصان الباقي في المنزل لحمايته من الجرب . وبعد ذلك فقط يقول فاسيلي ان والده قد ذبح ابنه فيودر – شقيق فاسيلي- الذي وقع أسيراً بأيدي البيض – لانه كان من الاعداء الحمر، وأن شقيقه الآخر قد قتل أباه انتقاماً لفيودر . الطعام والحصان أهم لدى فاسيلي من والده ، ومن شقيقيه.إن هذه الرسالة دليل على التشويه الرهيب لوعى فاسيلي في ظروف الحرب ، الى حد عدم القدرة على  التمييز بين الخير والشر، وبين القسوة والرحمة .

اما بطل قصة “جيدالي”، فهو رجل عجوز، و”صغير” يرتدي نظارة طبية، ومعطفا طويلاً أخضر اللون، ويعمل في متجره القديم . هذا الرجل ما يزال يفكر على نحو منطقي في زمن اللامنطق . ولديه احلام بسيطة جدا عن السعادة . يعلم ان الثورة قد اعلنت ، وإن ما يحدث ينبغي أن يكون في صالح الإنسان البسيط وسعادته ،غير أنه ليس بوسعه ان يفهم لماذا لا تختلف الثورة في شيء عن الثورة المضادة . هنا وهناك يطلقون النار، ويقتلون ، ولكن لا ينبغي للناس الطيبين ان يقتلوا الآخرين . وقال جيدالي : “ان الثورة شيء جيد يقوم به اناس طيبون ولكن هؤلاء إذا قتلوا الأبرياء ، فهذا يعني أنهم سَيِّئُون”.

الرجل العجوز يطلب من الراوي أن يشرح له أين الثورة ، وأين الثورة المضادة ؟. إنه مفكر صغير ووحيد ، يحلم بثورة مختلفة. وهو يريد أن يكون هناك اممية الناس الطيبين ، الذين لا يأكلون مع البارود، وتوابل الدم. هؤلاء ينبغي ان يكونوا من الذين يأتون إلى الناس “مع الخير، مع الله على شفاههم ، وفي نفوسهم” . ومثل هذا الإنسان نجده في قصة أخرى من قصص “الفرسان الحمر” وهي قصة (السيد ابوليك ) وهي تعبّرعن إيمان المؤلف بمبدأ الإخاء بين جميع البشر.

ولعل قصة “الملح” هي واحدة من أروع قصص “الفرسان الحمر”. يقول الراوي ان القطار المتوجه الى مدبنة بيرديشيف  – الذي كان يقل المحاربين القوزاق – توقّف في احدى المحطات ، وسمح جندي اسمه بالماشيف  لأمرأة تحمل رضيعاً بالصعود الى القطار عائدة الى بلدتها ، ولكن بعد مرور بعض الوقت ينتابه الشكوك ، فيقوم بنزع قماط الطفل ويكتشف ان الرضيع المزعوم ، ليس سوى كيس من الملح – وكان الملح شحيحا للغاية وثميناً خلال سنوات الحرب – بالماشيف ينهال على المرأة بسيل من المواعظ الثورية النارية ويتهمها بالمضاربة في قوت الشعب، ويرميها خارج القطار السائر، فتقع في جرف قريب، ولكنها لا تصاب بأي أذى ، فما كان من بالماشيف الا أن يتناول بندقيته وبصوبها نحو المرأة فيرديها قتيلة، ليغسل هذا العار – كما يقول -عن وجه الشغيلة والثورة .

نبوءة بابل

التحق بابل – أو الراوي ليوتوف – بالفرسان الحمر، وهو مؤمن بأهداف الثورة، ومتحمس لها، ولكن بعد كل ما رآه من تجاهل الثوار التام لكل القيم الأخلاقية، أخذ يتساءل في سره : هل هؤلاء هم الذين سيبنون العالم الأشتراكي ؟ وهل هؤلاء هم نماذج للإنسان الجديد الذي تسعى الثورة لصوغه ؟ لقد اهتز ايمانه بالثورة البلشفية ، وادرك بنظرته الثاقبة ان النظام الذي سينشأ على أيدي هؤلاء (الثوار) سيكون نظاما استبدادياً يحمل في طياته بذرة فنائه، لأنه سيكون نظاما يسلب الإنسان حريته وقيمه الأخلاقية ، ويحوله الى آلة للعسف الجائر والقتل المجاني .

رجع بابل من جبهة الحرب انسانا مختلفا . وانكب على كتابة رائعته ” الفرسان الحمر ” التي أثارت ضجة كبرى بعد نشرها . وصدرت في ثمان طبعات متلاحقة خلال بضع سنوات ، وترجمت الى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية . ومع اشتداد هيمنة ستالين على السلطة، أخذت الرقابة الأيديولوجية تضيّق الخناق على الكتاب المستقلين، ولم يعد بإمكان بابل نشر نتاجاته الجديدة، وفضّل الصمت لعدة سنوات.

وفي الكلمة التي القاها في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتاب السوفيت عام 1934 ، أخذ يتهكم على نفسه، ويقول ساخراً أنه اخترع جنسا أدبيا جديداً اسمه “الصمت”. وفي عام 1934 كتب مسرحية “ماريا” وفيها يقول النقيب فيسكوفسكي للمدفعي كرافجينكو: “سيأمرونك بان توجه نيران مدفعك نحو البيت الذي ولدت فيه ، وستفعل ذلك . ثمّ يأمرونك بأن توجه نيرانك الى ملجأ للأطفال ، فلن تتردد في تنفيذ الأمر، واذا طلبوا منك ان تتبرأ من أمك ، فإنك ستفعل ذلك أيضاً. ولكنهم لن يكتفوا بذلك ، بل إنهم لن يسمحوا لك بأن تشرب الفودكا مع اصدقائك، وسيفرضون عليك أن تقرأ كتباً مملة، وأن تغني اغنيات مملة، وعندما تزعل أو تحتج ، سيحضر اثنان من الرجال عند الفجر ويقولان لك: “تفضل معنا” وعندها ستكون نهايتك”.  وهذا ما حصل لبابل .

ففي ليلة 15 أيار 1939 حضر اثنان من البوليس السري لإلقاء القبض عليه ، ثمً اختفى أثره في أقبية الـ(كيه جي بي) الرهيبة، وبعد وفاة ستالين في عام 1953 تبين أن بابل اعدم في فجر 27 يناير1940، بتهم ملفقة بعد محاكمة صورية لم تستغرق سوى عشرين دقيقة. وظلت نتاجاته محظورة حتى عام 1957. وقد تحققت  نبوءة بابل ، حيث سادت أجواء كئيبة خانقة،طوال حوالي سبعين عاماً حتى تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 .

 

اترك رد

%d