حين يصلّي المسيح

   

حينَ نقرأُ في الإنجيلِ المقدَّس أنَّ المسيحَ، ربَّنا وإلهَنا، كانَ يصلِّي، يتبادرُ إلى الذِّهْنِ سؤالٌ حَوْلَ مَفْهومِ الصَّلاةِ وغايَتِها. فالمسيحُ هو الله المُطْلَق الصِّفات الذي لا يحتاجُ لشيء ولا يَنْقصُه شيء، كَيْفَ كانَ يُصلِّي ولِمَنْ يتوجَّه في صلاتِه؟ وإذا كانَتِ الصَّلاةُ طَلَبًا في أحدِ وُجوهِها، فماذا كانَ يطلُبُ وهو الكامِلُ القادِرُ على كلِّ شيء؟ فالأُلوهةُ لا تُصلِّي إنَّما نُصلِّي نحن البشر ونَبْتَهِلُ إلَيْها وهي تَسْتَجيب. هي لا تطْلُبُ إنَّما تُعْطى وتُعطي.

من هُنا نصدقُ إذا قُلْنا: إنَّ الذي كان يصلّي وما زال في المسيح، هو الطَّبيعةُ البشريَّة. ولأنَّ المُصلِّيَ هذا يجمعُ إلى الطَّبيعةِ البشريَّةِ المصلِّيَة، الطَّبيعة الإلهيَّة، تأْتي صلاتُه بالعُمْقِ الرُّوحي الأَقصى، الذي يصعبُ عليْنا نحن البشر أنْ نُدْرِكَهُ، رُبَّما، حينَ نصلِّي. وهذا ما لمَسَهُ الرُّسُلُ حينَ رأَوا المسيحَ يصلِّي فقالوا له: يا ربّ علِّمْنا أنْ نصلِّي.

لقد رأَوا في صلاتِه ما يُوازي كلَّ أَعباءِ الوُجود وهُمومه وكوارثه وحاجاته ونقائِصه، هُمُ الذين اعْتادوا، كما اعْتَدْنا نحنُ، أنْ يُصلُّوا كلامًا يردِّدونَه كلَّ مرَّةٍ ويُنْهونَه بطلَبٍ كما نُنْهي نحن صلاتَنا غالِبًا. لقد طلبوا أنْ يعلِّمَهم كيْفَ وماذا يصلُّون، علَّهم إذا سَمِعوا منه، يَصِلُون أَو يقتربون ممَّا وَصَلَ هو إلَيْه. طلبوا ذلك، لأَنَّهم شعروا بالعُمْقِ الرُّوحي اللَّامُتناهي، وكأَنَّ المسيحَ يغرقُ في عُمْقِ السِّرِّ الإلهيِّ وهو يصلِّي، فرغبوا مشْتاقينَ أَنْ يبلغوا مَا بلغَهُ هو.

لقدْ رأَوا بأَعْيُنِ الجَسَد ما شاؤُوا أَنْ يرَوْه بأَعْيُنِ الإيمان، فوقفوا كمَنْ يحاوِلُ أَنْ يَسْبُرَ غَوْرَ سِرٍّ من الأَسرار، واكْتشَفوا أَنَّهم حتَّى ساعتِها، لم يعْرِفوا عُمْقَ الصَّلاة، على الرُّغمِ منْ كَوْنِهِم كانوا في حياتِهِم اليَوْميَّة يُصلُّون ويتأَمَّلونَ ويُمجِّدونَ الله ويطْلُبونَ نِعَمِهِ ورِضاه، كمَا نفعلُ نحن تمامًا. وبناءً على طلبِهِم كانَ جوابُ السيِّدِ المسيح: إنْ شِئْتُم أَنْ تُصلُّوا فقولوا: أَبانا الذي في السَّماوات. لقد حوَّلَ مَفْهومَ عِبادةِ الإله القويِّ الجبَّار، إلى التَّعبُّدِ لإلهٍ أبٍ مُحِبٍّ، يَعْرفُ مَا نحن بحاجةٍ إلَيْه، فليْسَ بطولِ الصَّلاةِ تُسْتجابُ الطّلبات. وإذا كانَ الله الآبُ المُحبُّ يعرفُ مَا نحن بحاجةٍ إلَيْه، فهذا لا يَعْني أَنَّنا قد أُعْفينا من الصَّلاةِ والطَّلَب. فصلاتُنا تكْشفُ لنا، لا عظمةَ الله وقُدرتَه فقط، بل نقائِصنا وحاجاتنا وأَحلامنا ورغباتنا، وكلَّ ما يسبِّبُ فرحنا وسعادتنا. وحينَ نعرفُ مَا ينْقصُنا وحجْمَه ومداه، نكْتشِفُ مَحْدوديَّةَ الإنسان المَخْلوقِ أَمامَ كمالِ الخالِقِ وقُدْرتِه المُطْلَقة.

نعرفُ أنَّنا بحاجةٍ إلى هذا الكمالِ الذي نَسْتَنِدُ إليه ونتقوَّى بحبِّه وبأُبُوَّتِه. لِذا نُكرِّرُ الطَّلبَ مَرَّاتٍ ومرَّات، عملًا بكلامِ السيِّدِ المسيح: أُطْلُبوا تَجِدوا إقْرَعوا يُفتَح لكم. ونعرفُ أنَّ صلاتَنا ليستْ تَذْكيرًا لله بِمَا نحن بحاجةٍ إليه، بَلْ تأْكيدٌ قلبيٌّ وعقليٌّ وكلاميٌّ على أَنَّنا لَسْنا كامِلين، وربَّما تكونُ كذلك تعبيرًا عن رغبتِنا بالوصولِ إلى الكَمالِ الذي دعانا إليه السيِّد المسيح حينَ طلبَ قائِلًا: كونوا كامِلينَ كمَا أَنَّ أَباكم السَّماويَّ كامِلٌ هو.

اترك رد