كُوني فكَانَتْ، وأَيْنَ الحُرِّيَّة؟

  

كُلَّما أَطلَّ آذار يَغْلُبُني التَّأَمُّلُ بفِعْلِ الطَّاعة، وذلك انْطلاقًا من حضور القدِّيس يوسف المُطيع بلا تردُّد ولا اسْتِفْهام، فأَقِف حائِرًا، وربَّما متأَرْجِحًا، بين نَزْعَةِ الحرِّيَّة من جِهَة، وهي هِبَةٌ إلهيَّة جَعَلَهَا أَحَدُ آباءِ الكنيسةِ السرْيانِيَّة مع العَقْلِ صورةَ الله في الإنسان، حينَ شاءَ أَنْ يَشْرَحَ كلمةَ الكتاب «لنَخْلقِ الإنسانَ على صورتِنا ومِثالِنا». ومِنْ جهةٍ أُخْرى عَيْشُ الطَّاعة، هذه القوَّة التي تتحكَّمُ بمَسارِ الكَوْن، والتي لَوْلاها لَمَا انْتَظَمَتِ الكواكِبُ في السَّماء، لأَنَّها تسيرُ بحَسَبِ قانونٍ طبيعيٍّ لا تَخْرُجُ عَنْه، ولَوْ خَرَجَتْ لَعَمَّتِ الفَوْضى وأَدَّتْ الى خَرابِ الكَوْن.

وهي كذلك تَرْجَمَةٌ عَمَلِيَّةٌ لكلِّ القوانينِ الطَّبيعيَّة التي تَحْكُمُ كلَّ حركَةٍ في الوُجود، أَكانَ في عالَمِ النَّباتِ أَوِ الحَيَوان، ولَوْلاها لَمَا سارَتْ سفينَةٌ في عُبابِ البَحْر، ولا طارَتْ طائِرَةٌ في فَضاءِ السَّماء، ولا تبَخَّرَ المَاءُ بفَضْلِ ارْتِفاعِ الحَرَارةِ ولا تَجَمَّدَ ثَلْجًا بفعل الصَّقيع. ولَوْ شِئْتُ أَنْ أَخْتَصِرَ الحركةَ الكَوْنيَّة بكلمةٍ لَقُلْتُ هي الطَّاعةُ ومن دونِها كُنَّا وما زِلْنا «طوهو وبوهو» وما زالتِ الفَوْضى تُسَيْطِرُ على وُجودٍ لا هدفَ له. وأَعودُ إلى انْطلاقةِ الوُجود، فأسْمع كلمةَ الخالِقِ يأْمرُ بالوُجودِ قائِلًا لكلِّ ما هو مَوْجود كُنْ فيكون، وهكذا نَعْرِفُ أَنَّ انْطلاقةَ الوُجودِ كانت بطاعَةِ المُبْدِعِ الذي رأَى كلَّ مَا خَلَقَهُ حَسَنًا. وأَعودُ إلى الإنْسان، أَتُراه كسَائِرِ المَخْلُوقاتِ الجَامِدَةِ والمُتَحَرِّكةِ يُطيعُ قوانينَ لا دَخْلَ له في وَضْعِها؟ أَمْ أَنَّه يَتَجلَّى بالحرِّيَّةِ في أَفْعالِهِ وخَيَاراتِهِ وتَصَرُّفاتِه ومَواقِفِه؟ وبِنَاءً على هذه الحُرِّيَّة سيُؤَدِّي حسابًا عَنْ مَجْرَى حياتِهِ، فيُكَافَأُ على صلاحٍ فَعَلَهُ أَو يُجازَى على سوءٍ ارْتَكَبَه. وهنا أَسْأَل: أَيْنَ الحُرِّيَّةُ وكلُّ إنسانٍ مَرْهونٌ لأَلْفِ قَيْدٍ وقَيْد، مُنْذُ مَا قَبْلَ الوِلادةِ إلى آخِرِ رَمَقٍ في حياتِهِ. أَوَلَيْسَتِ الوِراثَةُ قَيْدًا؟ أَوَلَيْسَ الوُجودُ خَيارًا لَمْ يكُنْ فيه شَريكًا؟ أَوَلَمْ يُعْطَ اسْمًا منْ دونِ مَشورتِهِ؟ وأَيُّ واحِدٍ من النَّاسِ اخْتارَ أَبَوَيْه والعائِلَةَ التي سيُولَدُ فيها؟ وَحْدَهُ المَسيحُ اخْتارَ أُمَّه، أَجَل وَحْدَه. ثم تَأْتي النُّظُمُ والقوانين، والحاجاتُ والضَّرورات، ويأْتي رَأْيُ النَّاسِ وماذا يقولون، ويأْتي الدِّينُ وفرائِضُه، وتَأْتي السُّلطاتُ بِدْءًا بسُلْطَةِ الوالِدَيْن وُصُولًا إلى أَرْبابِ العَمَلِ والرِّئاساتِ وإلى مَا هنالِكَ مِنْ قُيودٍ تُذيبُ جَبَلَ جَليدِ الحُرِّيَّة حتَّى  لَيَكادُ يتَحَوَّلُ إلى نقطَةِ مَاء. وعلى الرُّغْمِ مِنْ كلِّ هذه القُيودِ نتَغَنَّى بالحُرِّيَّةِ ونُنْشِدُها ونموتُ في سبيلِها ونَرْفضُ الظُّلْمَ والاسْتِبْداد والقَمْعَ والاسْتِعْباد. ونَتْرُكُ مدينةً ونَذْهبُ إلى أُخرى طَلَبًا للحُرِّيَّة كمَا نقولُ ونُرَدِّد.

وأَخيرًا أَعودُ إلى نَذْرِ الطَّاعَةِ الذي نَلْتَزِمُ بِهِ يَوْمَ نَرْتَسِمُ كهنَةً أَو نَدْخُلُ جماعَةَ رهْبانِيَّة. والنَّذْرُ أَقْوَى الإلْتِزاماتِ لأنَّه وَعْدٌ حُرٌّ. وغالِبًا مَا يَسْأَلُنا النَّاسُ كَيْفَ تَسْتطيعونَ أَنْ تُطيعوا أَوَامِرَ الرُّؤَساءِ وأَنْتُم أَحْرار؟ أَيْنَ إرادَتُكُم؟ أَيْنَ رَغَباتُكُم؟ أَيْنَ أحْلامُكُم وطُموحُكم وأَيْنَ وأَيْنَ إلى آخِرِ السُّبْحَة، وبِماذا نُجيبُ كَيْ نَقْتَنِعَ نحنُ بالجَوابِ ثمَّ نُقْنِعُ السَّائِلين.

أَنَكْتفي بكلامِ الرَّسولِ بولس حينَ قال: أَطيعوا رُؤَساءَكُم ومُدبِّرَيكُم لأَنَّ السُّلْطَةَ مِنَ الله؟ أَمْ نُبيِّنُ لَهُم أَنَّ الطَّاعةَ فِعْلٌ حُرٌّ. وكَيْفَ يكونُ حُرًّا وهو طاعَةٌ لأَمْرٍ أَو لإرادَةٍ غَيْرِ إرادةِ المُطيع؟

نَعَمْ، أَنا أَرَى الطَّاعَةَ بعد النَّذْرِ فِعْلًا حُرًّا لأَنَّ انْطلاقَةَ العَمَلِ بِها بُنِيَتْ على خَيَارٍ حُرٍّ قائِمٍ على مَعْرِفَةِ مَا سيُؤَدِّي إلَيْهِ النَّذْرُ، مَعْرفَةً عَقْليَّةً مَدْعومَةً بفِعْلِ إيمانٍ ثابِت. فأَنا حينَ اخْتَرْتُ عَرَفْتُ تَمَامَ المَعْرفَةِ إلى مَاذا أَنْتَمي وعلى أَيِّ أَسَاسِ أَنْذُرُ الطَّاعَةَ، وبِنَاءً على هذه المَعْرفَةِ وهذا الخَيَارُ المَبْنِيُّ على المعرفَةِ الواعِيَة، أَقولُ إنَّ الطَّاعةَ هنا فِعْلٌ حُرٌّ، لأَنَّها في الأَساسِ خَيارٌ حُرٌّ، إذا لَمْ يكُنْ خَلْفَ هذا الخَيارِ قِوًى ضاغِطةٌ آتِيَةٌ منَ البَشَر أَو منْ أَثْقالِ المُجْتَمعِ أَو منَ الواقعِ الكيانيِّ للشَّخْصِ الذي اخْتار. وإذا كانتِ الانْطلاقَةُ حُرَّةً فكلُّ مَا يَأْتي بَعْدَها يكونُ فِعْلًا حُرًّا حتَّى ولَوْ كانَ الفِعْلُ طاعَةَ أَمْرٍ صادِرٍ منْ سُلْطَة، أَكانَتِ السُّلْطةُ منَ الله على حَدِّ قَوْلِ الرَّسولِ بولس، أَمْ منَ النَّاسِ بحَسَبِ رأْيِ فلاسِفَةِ التَّحرُّر والعَقْلانيَّة. وكم بالحَرِيِّ إذا كانَتِ الطَّاعةُ تَنْدرِجُ في تَصميمِ  الله الخلاصِيِّ كطاعَةِ القدِّيس يوسف لأَمْرِ الله الذي حَمَلَهُ له المَلاك. فالطَّاعةُ للخَيْرِ تأْتي بالخَيْر، بعِلْمٍ من المُطيعِ أَوْ من دونِ عِلْمِه. وهكذا نحن إنْ شِئْنَا أَنْ يكونَ الخَيْرُ دَأْبَنا.

اترك رد