*نص مقتطف من محاضرة، بعنوان «خليل تقي الدين الأديب والإنسان»، ألقيت في لقاء نظمه طلبة الصف الثانوي الأوّل في مدرسة السيّدة – ساحل علما، بإشراف الأستاذة هيام عكاوي، وتخلّلته مشاهد ممسرحة من وحي بعض قصص الشيخ خليل تقي الدين:
منذ نصف قرن، حَمَلتُ العدد الأوّل من مجلّتي «صدى الأرز» (آذار 1968)، لأقدّمه إلى «الأستاذ» جورج مصروعة في «دار المكشوف» الكانت محجّته الأدباء والكتّاب والشعراء المنتظرين من المؤسّس الشيخ فؤاد حبيش كلمة: «فلتطبع»، يكتبها بالحبر الأخضر على مخطوطاتهم، فتبصر النّور، وتأخذهم معها إلى «فردوس» الشهرة. توفيق يوسف عوّاد كان أوّل الداخلين إليه… لحق به ادوار حنين، بطرس البستاني، الياس أبو شبكه، قيصر الجميّل، «المحرّض مع فؤاد افرام البستاني» على سَتر «المكشوف» وتحويل المجلّة والدار إلى «لسان حال النهضة الأدبيّة في العالم العربي كلّه».
تحقّق لهما ما رغبا به. تغيّرت مواضيع المجلّة، فتكوكبت حولها النُخَب. سلّمت العدد الأوّل من مجلّتي إلى الأستاذ مصروعة، وقبل كلامٍ رغبتُ بقوله، دخل علينا «الشيخ فؤاد» ليقول لأبي زيكار: «أنا رايح لعند لويس الحاج، إذا وصل الشيخ خليل (تقي الدين) قبل ما إرجع ينتظرني».
…. وخرج مسرعًا.
تصفّح الأستاذ مصروعة العدد الأوّل، المتضمّن حديثًا مختصرًا مع الشاعر الملحمي بولس سلامه، وقبل أي تعليق منه دخل الشيخ خليل بقامته الرمح، وبمهابة تخفي بعض رصانة، مع الكلام الطريّ المطيّب باللياقات، وما اعتاده أبناء الجبل رِفعةً لمقام. أعلمه الأستاذ مصروعة باضطرار الشيخ فؤاد للتغيّب قليلاً لأمر مهمّ، ودعاه إلى الانتظار بعد أن قدّمني إليه مع باكورة عملي في الصحافة، وكنتُ بدأت أتلمّس الطريق إليها في جريدة «الجريدة» القريبة من «المكشوف» في محلّة «التباريس».
ضيف العدد الثاني
تصفّح الشيخ خليل المجلّة. توقّف عند حديث بولس سلامه، ما دفعني إلى التمنّي عليه أن يكون ضيف العدد الثاني، فيضيء على الحركة الأدبيّة اللبنانيّة، وهو من روّادها، منذ مشاركته في تأسيس «عصبة العشرة» (سنة 1930)، وبعدها بعشرٍ من السنوات، حين أصدر مجموعته القصصيّة الأولى «عشر قصص»، ونالت، يومها، انتشارًا واسعًا، فأُعيد طبعها أربع مرّات، كما نالت التقدير من نقّاد كبار في طليعتهم مخائيل نعيمه الذي وصف قلم كاتبها بأن «في صريره موسيقى، وفي حبره دمّ، وفي جريه رشاقة».
وقف الأستاذ مصروعة، وأخذ عن رفٍّ قريب منه نسخة من الكتاب، سلّمها إلى الشيخ خليل: “أكتب لصديقنا جوزف إهداءً”…
كتب… وبدأ الكلام، وما عاد توقّف، وما ارتاح القلم في يدي، أدوّن ما استطعت التقاطه من كلام جذبني أسلوبه والبساطة الأنيقة التي سَردَ بها «الشيخ» الدور الثقافي الريادي الذي جعل من لبنان، ومن أدباء لبنان، محط أنظار جميع المهتمّين بالثقافة العربيّة، محددًا ريادة بيروت في صناعة الكتاب (طبعًا وتبويبًا وأناقة)، وكانت المباهاة بها صفة للجمال ولقيمة الكتاب.
الكلام له وحده
في أقلّ من نصف ساعة غيّر الشيخ خليل مكانه ثلاث مرّات، وما توقّف عن كلام مباح له وحده.
عرض للنشاطات الأدبيّة عمومًا، في لبنان ودنيا العرب، مؤكدًا أن القصة، قصيرة كانت أم كبيرة، هي الأبقى أثرًا في نفس قارئها، لأن فيها من الأحداث ما «يشغل حشريّة» السامع أو القارئ… وهي شَغَلتنا منذ طفولتنا، مع الجدّات في راويات جادت بها مخيلتهن وتزيّنت مرّة بالتلهف ومرّة بالحذر، ومرّات بكشف «المجهول»… هذا المجهول الذي يلبس أكثر من وجه، ويأخذ أكثر من اسم، وأكثر من صفة تفرضها الأحداث المعبّرة في سرد جميل لمزيد من التشويق والتلهف.
هنا… فتح الشيخ خليل كتابه «عشر قصص» ليقرأ ما دوّنه «على الهامش»: «أنا أكتب لأصوّر الحياة كما تراها عيناي لا عينا غيري، وألقي شيئًا من النّور على نواحٍ فيها يمرّ الناس بها ولا يقفون (…) هؤلاء الأشخاص الذين تَعمر بهم قصصي ليسوا أشباحًا أبدعتهم مخيّلتي، بل هم من لحمٍ ودمٍ نقلتهم من مسرح الحياة».
تغيّرت ملامح وجهه. أقفل الكتاب. وضعه جانبًا، كأن صورة ما، لحدث ما، لإنسان ما، أطلّت وجذبته إليها فصمت برهةً» حسبتها ابتعلت هواء المكتب الذي جمعنا فأخذنا ثلاثتنا نفسًا عميقًا، انتقل الشيخ بعده إلى الكلام على الأسلوب، لا على المضمون، المهم كثيرًا – كما قال – فالأسلوب هو القادر على جعل الحياة تضجّ في الحكاية فتحييها، أو ييبس الكلام فتنكسر.
أضاف (دوّنت كلامه بالحرف): «الأسلوب هو الهويّة التي تخبرنا عن صفات تميّز قلمًا عن آخر، وكاتبًا عن آخر، وهذه (الصفات) تمنح صاحبها أن يظلّ على قيد الحياة مدى الدهر».
صاحب القلم الذهب
– مَن مِن هؤلاء الكتّاب تأخذه مثلاً؟
سألت، وما انتظرت جوابًا جاء بأسرع ممّا توقّعت:
– سعيد فريحة، صاحب القلم الذهب الآسر في الأسلوب البسيط إلى حدٍّ ينسيك أنك تقرأ، فترى بعينيك المشهد واضحًا جليًا، مطيّبًا باللطائف والتوريات… ومرّات يضعك داخل هذا المشهد فتظن لبرهة أنك الذي أسعده الحظ بأن يكون شاهدًا عليه، وربّما مشاركًا فيه.
أضاف: إن الأدب القصصي الذي كتب فيه سعيد فريحة مقالاته (في معظمها) لجدير بأن يؤخذ مثالاً لفرادته، وقدرته على ايصال الفكرة والرأي بأسلوب يأتي إليه طوعًا كمثل نهر يروي، ولا يُسأل النهر من أين جاء وإلى أين يذهب.
… وانتقل الشيخ من الكلام على أسلوب سعيد فريحة الذي أحبّه، ورافقه، وكتب (لاحقًا) في مجلّته «الصيّاد» إلى الكلام على صحافي آخر هو رشدي المعلوف الذي ما ذُكر مرّة، إلاّ وذُكر إلى جانب اسمه «مختصر مفيد». وصَحّ فيه قول أنطون قازان في أمين نخله: «من أدباء اليواقيت، طوافهم في الدنيا لا ينتهي».
قال: «هذان الصحافيّان الكبيران، لماذا لا يُدرّس أسلوبهما الأدبيّ في المدارس والجامعات، وفي معاهد الصحافة، انهما النموذج الراقي والفريد في خصائصه لأدب الحياة، الذي يشارك الناس في عيشهم، ناقلاً العبر بفرادة فيها شيء من الأدب القصصي العالمي… وأشدّد على صفة العالمي… وهنا، وبمثل هذا الريادة الكتابية نستطيع أن نحمّل الأسلوب المبسط (كما فعل فريحة) أهم القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة والفكريّة، من دون ارهاق القارئ بما لا يستطيع احتماله».
أضاف: «إن سعيد فريحة الصحافي الأديب، ورشدي المعلوف الصحافي، الشاعر والرسام والموسيقي، هما النموذج الذي يجب أن يُؤخذ به حين الكلام على الأدب اللبناني، الإنساني، والتأريخي بأسلوب مغاير لأسلوب مَن سبقهما وما استطاع أي كاتب، بعدهما، تقليدهما، ولو حاول».
… ونظر الشيخ خليل إلى ساعته:
– «أف، الوقت لا يرحم والشيخ فؤاد تأخر كثيرًا».
سألته: هل أستطيع أن أنشر ما سمعته في العدد الثاني من مجلّتي؟
رحّب، واشترط أمرًا واحدًا، أن يَمرّ الحديث قبل نشره على الأستاذ مصروعة.
مرّ الوقت مسرعًا، الشيخ خليل يتحدث والأستاذ مصروعة وأنا في سكوت، فالجوهري من الكلام فرض ذاته كمثل طير حط بيننا وما درينا به، إلا حين وقف الشيخ ليقول باسمًا:
–«بيظهر الأستاذ لويس حبس الشيخ فؤاد بسبب اختلاف في صوابية بعض الكلام المترجم».
كان لويس الحاج يومها، يتولّى ترجمة بعض الكتب الفرنسيّة لتصدر عن «المكشوف» ضمن إحدى السلاسل، التي أطلقتها الدار بشكل دوري منتظم.
قبل أن يغادر مسح جبينه بكفّه وقال موجّهًا كلامه إليّ، وكأنّه يملي وصيّة:
«كلّ أدب، مهما كان نوعه، لا يتناول الإنسان، بما لهذا الكائن من صفات، مصيره الضياع وتراكم الغبار فوقه (…) الأدب والشعر والفنون جميعها هي الإنسان (…) أجل الإنسان، هو الزهرة التي تثمر، والزهرة التي لا تثمر تسقط وتداس».
عودة إلى الماضي
ساعة من الزمن، ربّما أكثر، وربّما أقل، استمعت فيها إلى الشيخ خليل تقي الدين يتحدث ويروي (اضافة إلى ما ذكرت) بعض تجاربه في الوظيفة الرسميّة (مديرًا لمجلس النوّب)، ثم في السلك الخارجي سفيرًا، فعودة إلى الصحافة والأدب، الما ابتعد عنهما إلا لضرورات الوظيفة التي «تقتل المواهب وتضعها مع الملفات في أدراج يُكلف الغبار بحمايتها».
نصف قرن، احتفظت بالأوراق التي دوّنت فوقها بعض نبض هذا اللقاء الذي تمنّيت لو يتكرّر، ولم يتكرّر، ولم يصدر الحديث في العدد الثاني من مجلّتي، وإلى اليوم لا أتذكّر سببًا لذلك، لكن ما عوّضني عن موعد صدوره إلى اليوم، تلبية لطلب من إدارة مدرسة السيّدة – ساحل علما للكلام على «خليل تقي الدين الأديب والإنسان».
الشكر لمن حرّضني على ذلك، برغم إصرار الوقت على مضايقتي بأعمال كثيرة، وكثيرة، والمطلوب واحد.