وصف موقع “المورد الثقافي” الثقافة في لبنان، بأنَّها “نتاج التنوّع والهجرة والصراعات، وقدرة اللبنانيين على المبادرة والتأقلم والانفتاح والإنتاج والتدبير والتكيّف”، واعتبر أنَّ (بيروت) “تميّزت بديناميّة مستقلّة … (وكانت) ملاصقة لحركة المجتمع والفكر في لبنان”، وأنّها “نتاج وراعٍ للتنوّع الحضاري للجماعات الطائفية والإثنية”. وذهب مؤتمر “الثقافة والدين والسياسة وإعادة بناء لبنان” أبعد من ذلك بالقول: إنَّ الثقافة اللبنانية تعدّدية “تقوم على الاختلاف بالرؤية السياسية والحضارية لدى الطوائف في لبنان…”. وهذا، بالطبع، بتأثير الترابط بين الدين والثقافة، وتأثير الدين في الثقافة، وعلاقة الثقافة بالدين وبالسياسة وبالنظام السياسي. وقد عكس كرّاس “القضية اللبنانية” الذي كان يصدر في سبعينيات القرن الماضي عن “مركز الدراسات في الكسليك”، بشكلٍ عام الرؤية المسيحية “التعدّدية الثقافية” والصراع السياسي في لبنان بالقول: “منذ ذلك الحين (تأسيس لبنان الكبير، العام 1920)، قام صراع سياسي في لبنان، كان يشتّد ويخبو بحسب الظروف، ولكنه لم يتوقّف لحظة. وقد أدّى هذا الصراع إلى فتن أحيانًا، وإلى حروب أهلية أحيانًا أخرى”.
وعلى عكس المسيحيين، رأى مسلمون أنَّ الاختلافات الثقافية في المجتمع اللبناني هي تنوّع من داخل الثقافة العربية الواحدة. وضمن هذا المفهوم، جرى نفي “التعدّدية الثقافية” من أجل فرض ثقافة “الأنا” بكلِّ مكوّناتها المتداخلة والمترابطة، العروبية والقومية العربية والإسلامية، على ثقافة “الآخر”. ولا تزال مسألتا “التعدّد” و”التنوّع” مدار خلاف، على الرغم من أن “اتفاق الطائف”، الذي أنهى حرب لبنان، حسم رسميَّا مسألتي عروبته وانتمائه، أي هويته، ولكن “على الورق”.
هذه المعضلة المزمنة، تجعلنا نطرح الأسئلة التالية: هل توجد في لبنان “ثقافة التعدّد” التي هي حتميّة للولوج إلى “التعدّدية الثقافية”، أي هل هناك “ثقافة”، نتربّى عليها في البيت والمدرسة والجامعة وفي سوق العمل والحياة العامّة وفعّاليّاتها، تجعلنا وأجيالنا نعي أنَّ لبنان يتكوّن، واقعًا، من إثنيات وثقافات متعدّدة، لكلّ واحدة منها خصوصيتها المتميّزة وجذورها الممتدّة في الماضي، رغم أنَّها تعيش كلّها تحت الفضاء ذاته، جغرافيًا ومجتمعيًّا وسياسيًّا؟ وهل لدينا “ثقافة التعدّد” التي تقوم على نبذ الدمج القسري بين الثقافات في ثقافة واحدة، تحت مسميّات الوحدة والقومية والانصهار؟ وهل لدينا ثقافة القبول بـ “الآخر”، كما هو، إذا كان أقليّة دينية أو عرقية أو اثنية، والاعتراف به، واعتباره مكوّنًا من مكوّنات الوطن، وعدم التسلّط عليه وحرمانه من حقوقه الطبيعية، والتعامل معه بعدالة وديمقراطية وانفتاح؟
لقد أثبتت العلاقات المجتمعيّة في لبنان، عبر تاريخه الحديث والمعاصر، أنَّ ثقافة المجموعات الطوائفية، رغم الدعايات الكاذبة حول “الديمقراطية التوافقية”، قامت على رفض “الآخر” والتحريض والتسلّط عليه، وسلبه حقوقه، إلى درجة تخويفه وإلغائه؛ فيصرّ المسيحيون على خصوصية ثقافتهم الدينية، فيما يعتبر المسلمون المتأثرين بدورهم بدينهم، أنْ لا جود لثقافة لبنانية بنفسها، وأنَّ ما يروّجه المسيحيون هو ثقافة فرنسية (عمر فرّوخ)، وأنَّ الصحيح هو ثقافة عربية وعاؤها الإسلام. وقد أبان تقرير “التنمية الإنسانية العربية”، العام 2016، عن أنَّ نسبة 80% من الشباب اللبناني أكدوا تأثير الدين في حياتهم. وبرأينا، إنَّ القبول بـ “التعدّدية الثقافية” ومكوّناتها، يتطلب أولًا وجودًا حتميًا لثقافة التعدّد التي تسبقها وتُؤسّس لها. فإلى أي مدى أدّى الدين دورًا في بناء تعدّدية ثقافية؟
*
تاريخيًّا، قام المكوّن المجتمعي في جبل لبنان، خلال الحُكم العثماني، على ثنائية دينية تمثّلت بالطوائف المسيحية التي شكّلت، خلال القرن التاسع عشر، قرابة 80% من مجموع السكّان، بغالبية مارونية (58%)، والطوائف الإسلامية التي لم يصل حجمها، بمختلف مذاهبها، إلى 20% من سكّانه. وقام التعايش الطوائفي، في حينه، على ثلاثة مرتكزات؛ وهي:
1- التباين في قاعدة الدين واليقين، عبر بقاء كلِّ طائفة في قراها أو بلداتها، على دينها ويقينها، تُمجّد قِيمها وتاريخها، وتُطوّر ثقافتها وتجاربها بحرية وبمعزل عن الأخرى.
2- التباين في الحجم الديمغرافي الطوائفي، الذي أخذ بُعده التاريخي، وتحوّل لصالح المسيحيين في جبل لبنان، والموارنة تحديدًا.
3- تلبية المصالح المتبادلة على أساس العلاقات الوظيفية والتعاون في المجالين العسكري والسياسي وفق الانتماءات الحزبية (القيسية واليمنية)، لا الطائفية، من دون أنْ يؤدّي هذا التعاون إلى حالةٍ من الانصهار المجتمعي.
لكن هذه الخصوصيات لم تؤدِّ، مع ذلك، إلى حالةٍ من التصادم الطائفي، قبل العام 1840، إذ اقتصر الصراع على الانقسام الحزبي (الغرضية) البعيد عن “الطائفية المجتمعيّة”. وقد بقيت المجموعات الطائفية، وإنْ كانت متجاورة أو متداخلة، منعزلةً بعضها بعضًا اجتماعيًّا، ومنغلقة على نفسها بشكلٍ عام، وتحافظ على خصوصيتها.
وقد حافظت هذه “التعدّدية الثقافية” على خصائصها المجتمعيّة، ولم تصبح جزءًا من شخصية لبنان السياسية، إلّا مع “نظام القائمقاميتين”، وبشكلٍ أعمق وأوضح، مع “المتصرفية”، العام 1861، حيث تسيّست من خلال نظام، تحميه الدول الكبرى، تُقسّم السلطة السياسية فيه على الطوائف الدينية، وفق حجم كلٍّ منها الديموغرافي. وبذلك، تحوّل جبل لبنان، منذ المتصرفية، إلى “دويلة طائفية”، ينظّمها “دستور” وإدارة طائفيّان، الغلبة فيها للطائفة المارونية، بصفتها أكبر الطوائف المسيحية والدينية. وكانت نصف مواد “نظام المتصرفية” السبع عشرة، ذات طابع طائفي. وبذلك، بدأ الخوف والتوجّس يدخل إلى العلاقات المجتمعيّة بين المسيحيين والمسلمين، ويزيد من التعصّب ومن عزلة أحدهما عن “الآخر”، كما تطلّع كلٌّ منهما نحو الخارج: المسيحيون نحو أوروبة المسيحية التي اعتبروا أنفسهم جزءًا من حضارتها المتفوّقة، والمسلمون نحو الدولة العثمانية المسلمة، على الرغم من ضعفها وتراجعها أمام الغرب المسيحي. لكلِّ هذه الأسباب، لم يتمكّن اللبنانيون من العبور من “العثمانية” إلى “لبنان الكبير” وبناء كيانٍ وطني.
ومنذ تأسيس ” لبنان الكبير”، و”تجميع” طوائف متعدّدة في فضاء جغرافي، في ظلِّ نظام يكرّس ازدواجية الطائفية، سياسيًّا ومجتمعيًّا”، بدأت تُطرح بوضوح مقولة “التعدّدية الثقافية”؛ ثقافة المسيحيين وثقافة المسلمين. بمعنى أنَّ لبنان منقسم إلى ثقافتين، تستند إلى الدين؛ فتقوم الأولى على “الخصوصية اللبنانية” وتسويغ تاريخي لوجود لبنان منسلخ عن محيطه العربي، فيما تجاهر الثانية بالهوية والانتماء العربيين. وهذا يعني، أنَّ لبنان قائم بذاته ضمن حدوده المعترف بها، منذ العام 1920، وفق “القوميين اللبنانيين”، وهو جزء لا يتجزأ من الأمّة العربية، وفق فكر الفريق القومي العربي. وقد عطّل هذان التضادان حصول دمج مجتمعي، وتسبّبا بأزمات تغذّت من “الطائفية المجتمعيّة”، ومن نظام لبنان الطائفي السياسي ودستوره، وكذلك من استقواء الطوائف بالخارج بعضها على بعض.
إنًّ بروز ثقافة طائفية وتوظيفها في الصراع السياسي، يعود إلى الترابط الطبيعي بين الدين والثقافة، وبين الدين والسياسة، مع العلم أنَّ الخلافات بين اللبنانيين لم تكن بالضرورة ذات منحى ديني، إذ يعود أكثرها إلى التيارات الثقافية والأيديولوجية والانتمائية التي تمايزت مواقفها حول تكوّن لبنان وموقعه بين العالمين العربي والغربي. فكان هذا عاملًا حاسمًا في حدوث انشطار مجتمعي ثقافي – تربوي باتجاهات أيديولوجية – سياسية متضاربة، أضعفت، مجتمعة، دور الدولة المركزي، الراعية للنظام الطائفي والمسؤولة عن الثقافة والتربية الوطنية، وبالتالي عدم قيام لُحمة مجتمعيّة. ونرى هذا بوضوح في أربع محدّدات أساسية، تبرز “التعدّدية الثقافية” سنضيء عليها؛ وهي: اللغة، والتربية والتعليم، والنظرة إلى التاريخ، وهوية لبنان وانتماؤه، ثم ننتقل إلى مرحلة ما بعد حرب لبنان، أي منذ “اتفاق الطائف”.
محدّدات “التعدّدية الثقافية”
عقب إنشاء “دولة لبنان الكبير” بإرادة فرنسا والموارنة، ورفض المسلمين كيانًا منفصلًا عن سورية، بدأت طوائف لبنان توظّف اللغة في صراعاتها الثقافية لإيجاد الهوية القومية التي تناسبها. ومن المعروف أنَّ اللغة هي عماد الثقافة، والأداة التي تمكّن من اكتساب المعرفة، وما يبرزه الفكر من نتاجات، وكذلك دورها المباشر في الوعي القومي. من هنا، تؤدّي ثنائية اللغة أو التعدّد اللغوي إلى تأثّر صاحبها بثقافة تلك اللغات ومضامينها، في أحاديثه وسلوكياته وأفعاله، وحتى في انفعالاته، وأساليب تعايشه مع “الآخر”.
لذا، بدأ السؤال الذي يطرح نفسه، مع نموّ الفكر القومي اللبناني لدى المسيحيين، والفكر القومي العربي لدى المسلمين: أيّ لغة لأيّ هوية ثقافية، وبدأ يظهر بعد تكوّن لبنان الكبير. صحيح أنَّ العربية أصبحت لغة البلاد الرسمية، منذ العام 1943، وغاب دور اللغة الفرنسية في الإدارات اللبنانية، إلّا أنَّ المنحى نحو ازدواجية اللغة (الأب إتيان صقر)، وتغليب اللهجة الللبنانية العامية على العربية الفصحى، وكتابتها بالحروف اللاتينية، وجعلها لغة قومية مستقلّة (سعيد عقل)، حافظ على وتيرة مرتفعة، وظهر بوضوح خلال حربه الداخلية، عبر المنتديات والإذاعات والتلفزيونات والنشرات غير الشرعية، وقد وُجدت “مدارس” فكرية وسياسية، ومنابر ومراكز أبحاث ودور نشر لتسويغ “التعدّدية الثقافية” والتمايز والخصوصية، أو رفضها، وبخاصّة في بيروت وجبل لبنان. وكان التشديد على العامية اللبنانية، والإصرار، في المقابل، على العربية الفصحى، يستيقظان ويخبوان حتى بعد استقلال لبنان، مرورًا بحرب لبنان، حتى “اتفاق الطائف”، العام 1989.
وفي المقابل، دافع المسلمون عن اللغة العربية الفصحى، ورفضوا أي مساس بها، لأنَّ ذلك يسيء إلى القرآن الكريم، بصفته كتاب المسلمين الذي أُنزل باللغة العربية الفصحى (عمر فرّوخ)، ويخدم، وفق رأيهم، إرادة استعمارية، ما أجّج الصراع الثقافي في لبنان، وانعكس بالتالي أزمة هوية.
من هنا، أسهمت اللغة الأجنبية والتدريس فيها، في انقسام اللبنانيين بين فئتين، مسيحية وإسلامية، تستنبط الأولى منها ثقافة غربية، فيما تتعامل الثانية مع اللغة الأجنبية وتستعملها كمادة تعليمية ووسيلة تفاهم، من دون أنْ تنخرط في ثقافة تلك اللغة، باستثناء فئات ليبرالية إسلامية منفتحة على اللغات الأجنبية والثقافة الغربية. وكانت مواد التدريس في المدارس تقوم على اللغات الأجنبية، وبخاصّة الفرنسية، في وقت كانت فيه، قبل “اتفاق الطائف”، نسبة 45% من التلامذة في التعليم ما قبل الجامعي في المدارس الرسمية، في مقابل نسبة 55% في المدارس الخاصّة والأجنبية. وبتأثير “التعدّدية الثقافية”، كان هناك جامعة رسمية واحدة، مقابل ستّ جامعات أجنبية التأسيس، لكنها تمثّل التنوّع الثقافي الطوائفي. وقد تحوّلت “التعدّدية الثقافية” إلى عصبية طائفية في الخطابين التوجيهي والتعليمي في المدارس؛ حيث جرى التركيز على الفوارق والاختلافات، و”تشريب” التلاميذ فكرة أنَّ الانتماء إلى الوطن يتمّ عبر هويتهم الدينية.
وإلى جانب اللغة والتعليم ودورهما في إبراز الهوية الفردية والمجتمعيّة، فإنَّ كتابة التاريخ وتدريسه، في ظلِّ طائفية مجتمعيّة وطائفية سياسية تتغذيّان من بعضهما بعضًا، اتسما بالتلاعب الأيديولوجي، حين زادت حرب لبنان من حدّة الانحدار نحو تأريخ، يلبّي حاجات الطوائف والمناطق، للإبقاء على المجتمع في حالة نزاع دائم مع ذاته. ولأنَّ الذاكرة التاريخية هي الأساس لبناء الهوية واستمرارية الثقافة، غاصت “السوق” خلال الحرب بمؤلّفات تاريخية طوائفية، أبرزت “الصراع على تاريخ لبنان” كما أبان ذلك الباحث والأكاديمي أحمد بيضون: الاختلافات والنزاعات الماضوية السابقة بمنحى تصادمي، وتغيّب الانتماء الوطني، وعدم إمكان الطوائف التعايش تحت مظلّة النظام القائم، فيما تعمل المدرسة الطائفية على نقل تراثها الطائفي إلى التلاميذ، عبر تعليم مواد الدين واللغة والجغرافيا والأخلاق.
أمّا على صعيد هوية لبنان، في ظلّ “التعدّدية الثقافية” التي أفرزتها الطائفية المجتمعيّة، فقبل سقوط الدولة العثمانية، بقليل، جاهر المسيحيون بعروبتهم، وعملوا على الحفاظ على الثقافة العربية، عبر جمعيّاتهم وأدبياتهم وأشعارهم. وسعوا إلى قواسم مشتركة مع المسلمين للتخلّص من العثمانيين، كانت العروبة أبرزها. وتبلور ذلك في عمل مشترك عشيّة الحرب العالمية الأولى (مؤتمر باريس الأول، العام 1913)، ما أدّى إلى اختفاء “الرابطة العثمانية” (ما يجمع بين المسلمين والدولة العثمانية على صعيد الدين)، وقيام النُخب الإسلامية بالفصل، موقتًا، بين هويتهم العربية و”هويتهم” الإسلامية، نتيجة طموحاتهم القومية على حساب انتمائهم الديني. فما الذي جعل المسيحيين إذّا ينقلبون على العروبة بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أنْ كانوا روّادها؟
إنَّ تحوّل “القومية العربية”، إلى مشروع سياسي يسيطر عليه “القوميون العرب” المسلمون، واتجاهاتهم الوحدوية مع سورية، كما خلطهم بين العروبة والإسلام، والتجارب التاريخية للمسيحيين تحت حُكم الأنظمة الإسلامية، جعل المسيحيين الموارنة والكاثوليك يخشون من الذوبان في قيم المسلمين وثقافتهم في حال أمسك الآخرون بالحُكم.
من هنا، أخذت الثقافة توظّف في الكيان اللبناني الجديد سياسيَّا، من قبل كلِّ طائفة على حدة، لتأكيد خصوصيتها في النزاعات الطائفية السياسية والمجتمعيّة، عبر تمجيد قيم ماضيها وتاريخها وتراثها وعقيدتها، وصولًا إلى الانتماء إلى الهوية الطائفية. فرفع “القوميون اللبنانيون” شعارات الحضارة اللبنانية ومنابعها وروافدها؛ الفينيقية، واليونانية، والرومانية، والعربية قبل الإسلام، والإسلامية، والبيزنطية، والمتوسّطية، والغربية، وأدلجوها، وروّجوا لها في الكتب المدرسية وكُتب التاريخ، وفي خطابهم السياسي، وفي الدستور؛ فكانت تجعل لبنان كيانًا سرمديًّا قائمًا بذاته مستقلًّا عن محيطه. لكن هذه المقولة، وجدت من ينتقدها من المسيحيين.
وفي المقابل، رفض المسلمون طروحات الهوية “المسيحية”، ورفعوا لواء الحضارة الإسلامية التي لا تعترف بالتراث الثقافي لعصر الجاهلية قبل الإسلام، فيما تحوّلت العروبة “الإسلامية” إلى تيار، يستقطب المثقفين والجماهير الإسلامية. وبالنسبة إلى هؤلاء، فقد حصل تشويش أصاب أذهانهم، عبر التداخل المُحكم، المعلن والمستترّ، للإسلام، عقيدة وحضارة وثقافة وتاريخًا، وبالتالي فلا فصل ولا تناقض بين العروبة والإسلام (فرّوخ، أرسلان).
وفيما كانت العروبة تعني، بالنسبة إلى المسيحي، تيّارًا حضاريًا، ثقافيًّا فكريًّا، لغويًّا، أدبيًّا، وليس سياسيًّا، كانت تعني الإسلام، بالنسبة إلى المسلم. صحيح أنَّ “الميثاق الوطني” للعام 1943 حسم هوية لبنان بشكلٍ ملتبسٍ (لبنان ذو وجه عربي ولغته عربية، وهو جزء من العالم العربي)، لكن هذا التعريف جلب الويلات على اللبنانيين؛ ففسّره المسيحيون على أنَّه اعتراف بالقومية اللبنانية، كما عند كمال الحاج الذي فلسف “القومية اللبنانية”، فيما فسّر المسلمون “الميثاق” بأنَّ عروبة لبنان وانتماءه واضحان جليّان. بمعنى آخر، تشبّث المسيحيون بمفهوم “الأمّة اللبنانية”، فيما تمسّك المسلمون بعروبتهم وإسلامهم وخلطوا بينهما، وبتبعية لبنان للعالم العربي، وأنتجوا في ما بعد، مع نمو التيارات الإسلامية، عن قصد أو من دون قصد، مفهوم “الأُمّة الإسلامية” السياسي. فكانت “القومية اللبنانية” تخيف المسلمين، فيما تفعل “العروبة” المقرونة بالإسلام الفعل ذاته لدى المسيحيين.
ثقافة ما بعد الطائف
بعد “اتفاق الطائف”، ساد الاعتقاد لدى المسلمين في لبنان أنَّ مسألة هويته قد حُسمت لصالح عروبته وانتمائه العربي، أي أنْ لا مكان لأحد الأركان الرئيسية لـ “التعددية الثقافية” (القومية اللبنانية) التي ينادي بها بعض المسيحيين. ومع أنَّ المشروع القومي العربي للناصرية، كان قد أصبح ضربًا من الوهم، بعد الحروب العربية الإسرائيلية، وفي ظلّ التطبيع مع تلّ أبيب، سرّاً وعلنًا، ووجود أنظمة وراثية فاسدة، من الخليج إلى المحيط، تتربّع على السلطة ولا تعنيها مسألة الهوية والقومية العربية، فإنًّ العروبة كحركة فكرية ثقافية، وليست كبرنامج أو نهج سياسيَ، ظلّت، رغم تأكيد الطائف أنَّ لبنان عربي الانتماء والهوية، مرفوضة كمكوّن أساس وحيد لهوية لبنان، وذلك من قبل غالبية المسيحيين، وربّما من بعض المسلمين الليبراليين. من هنا، سيكون الصراع التعصّبي على الهوية، بعد الطائف؛ بين هوية لبنانية تنخرط فيها غالبية المسيحيين وشريحة كبيرة من المسلمين السنّة المتنوّرين، وبين هوية إسلامية “شيعية”، بشحنة فارسية، يعمل “حزب الله” على فرضها في مناطق سيطرته، وترويجها في السياسة والمجتمع، وبتبعية كاملة للولي الفقيه. وفي الوقت ذاته، تدعو تيارات إسلامية سنّية متشدّدة إلى أصولية، ترفض “الآخر” واستئصاله، حتى “الآخر” المسلم الليبرالي.
*
في مناسبات الأعياد السنوية لجامعة القديس يوسف، أواخر تسعينيات القرن الماضي، شدّد رئيسها الأب سليم عبو اليسوعي (1928 …) على “المقاومة الثقافية” ضدّ محاولات تطويع المسيحيين، مشيرًا إلى أنَّ “التعدّدية الثقافية”، بمعناها، الثقافة العربية، هي وجه من أوجه هوية لبنان وثقافته، وليست كلّها مكوّنات ثقافته. ومع أنَّ كلام عبو لا يخدش العروبة بشيء، حيث إنَّ كثيرين من الأعراق غير العربية تفاعلت مع العروبة طواعية، وأخذت منها وأثّرت فيها، فما بالنا بالروافد الثقافية التي صبّت في لبنان منذ أيام الفينيقيين؟
إنَّ ردّ العروبة إلى الثقافة، وليس إلى القومية الوحدوية، أو إلى الإسلام، يحلّ مشكلة العصبية الدينية، أي مشكلة الإثنيات وأصل الشعوب ضمن الحضارة العربية، وكذلك الانتماء الديني والمذهبي. فعندما تغنّى الرعيل المسيحي الأول بالعروبة في عصر النهضة، لم يكن يتحدّث عن القومية العربية بمعناها السياسي، بل عن العروبة بمفهومها الثقافي التي تحتضن الجميع، من أعراق وأديان وثقافات. فما الذي يضرّ العروبة أو الثقافة اللبنانية إذا تعدّدت روافدها، وخصوصًا أنّنا نعيش اليوم في عصر العولمة؟ فليس تحجّر الثقافة وانغلاقها على ذاتها، وعدم تفاعلها مع ثقافات أخرى، هي سمة العصر اليوم. فكيف يتحوّل العالم إلى قرية صغيرة بفضل تكنولوجيا التواصل والانفتاح، من دون أنْ تتفاعل الثقافات والحضارات مع بعضها بعضًا؟ وكيف يمكن “الدخول” إلى العوالم الأولى من دون ثنائية اللغات أو ثلاثيتها؟ وهل يمكن إنتاج التكنولوجيا والمعرفة في الغرب، بمعزل عن الحرّيات السياسية والديمقراطية والعدالة وثقافة الانفتاح على “الآخر”؟ ولأنَّه اعتبر أنَّ العروبة وجه من أوجه ثقافة لبنان، تعرّض الأب عبو، في حينه، للإدانة من قبل قيادات إسلامية ومثقفين مسلمين.
وليس منافيًا للواقع، وجود ميل متنامٍ، خلال العقدين المنصرمين، لدى مسلمين متنوّرين وليبراليين، بقبول فكرة “التعدّدية الثقافية” “المسيحية” تحت سقف لبنان الموحّد سياسيَّا، وهذا ما عبر عنّه الباحث جورج صبرا في مقال لافت له، العام 2000. فلماذا لا نكون كالولايات المتّحدة الأميركية؛ على سبيل المثال، مختبرًا للتعدّدية الثقافية، فينضوي جميع المواطنين، بأصولهم الإثنية والعرقية واللغوية…، تحت سقف سياسي واحد وموحِّد، فيما تمارس كلُّ مجموعة ثقافتها وانفتاحها على الثقافات الأخرى؟
مع ذلك، فإنَّ “التعدّدية الثقافية” والعَلمَانية، والفدرالية، كدعوة سامي الجميّل وآخرين، تبقى حلولّا من الصعب أنْ تُجمع عليها كلّ الأطراف الطائفية، وهو ما أثبتته الأحداث والمعطيات، قبل العام 1990 وبعده. وهذا يعود في رأينا إلى عدم وجود “ثقافة التعدّد”. وبسبب التهديد بإلغاء الطائفية السياسية، وفق ما نادى به “اتفاق الطائف”، وبالتالي فرض حُكم الأكثرية الإسلامية على الأقلية المسيحية تحت مسمّى “ديمقراطية الأكثرية”، بقي المجتمع اللبناني في حالة انفصام ثقافي وسياسي، فيما يعيش المسيحيون في خوف دائم من جراء تذويبهم سياسيًّا وثقافيًّا. ففي العام 1994، هدّد رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي المسيحيين بإلغاء الطائفية، أي جعلهم “ذمّيين”، نصًا وفعلًا، في ظلِّ غياب الديمقراطية الحقيقية والمساواة الفعلية بين الطوائف والمواطنين، وكذلك ثقافة الاعتراف بحقوق “الآخر” وتمثيله. وكذلك فعل العلامّة الراحل محمد حسين فضل الله (1935 – 2010)، عندما طالب بدولة إسلامية في لبنان، يُعامل فيه المسيحيون كأهل ذمّة.
وفي ظلِّ هيمنة السوري على البلاد، وتغذيته التناحر الطائفي والمذهبي، وبالتالي الإخلال، عن عمد، بالتوازنات التاريخية بين الطوائف، وانتهاك القوانين والدستور، وسنّ القوانين التي تخدم مصالحه وأتباعه، لم يُعط المسيحيون الفرصة كي يختبروا “عروبتهم الجديدة”، التي فرضها عليهم “اتفاق الطائف” (لبنان عربي الانتماء والهوية) في لحظة ضعفهم وتشتتهم (الصراعات داخل المعسكر المسيحي، بين الأعوام 1988 – 1990). بدلًا من ذلك، عايشوا أسوأ أنواع “العروبة السورية”؛ من ناحية الإخلالات بالتوازنات الطوائفية، والهيمنة على المجتمع والحياة السياسية، وامتصاص اقتصاد البلاد، وإضعاف الرئاسات الثلاث، وتهميش المسيحيين، وسلبهم صوتهم الانتخابي خلال انتخابات، الأعوام 1992 و2005 و2009، في ظلِّ “المناصفة” الوهمية التي أقرّها الدستور، وخضوع المسلم التامّ للنظام السوري، ووجود معاهدة مجحفة، فرضتها سورية على لبنان باسم شعارات كاذبة.
إنَّ العروبة التي تستّر وراءها النظام السوري في لبنان، وبأنَّه الحريص عليها والمدافع عنها، كانت نفعية وانتهازية وتدميرية، وجرى توظيفها، من قبله، في خطابه الأيديولوجي والسياسي لتسويغ احتلال لبنان. وكان التعاون السياسي الإسلامي – المسيحي لإخراج السوري من لبنان عقب اغتيال الرئيس الحريري، العام 2005، مرحلة عابرة، لم تؤدّ إلى انبثاق هوية وطنية توحيدية للبنان، رغم الخطاب المعتدل للقوى المسيحية، وطرح الرئيس سعد الحريري شعار “لبنان أولًا”. فاللبنانيون، الناقمون على النظام السوري، جهارة وسرًّا، والذين نزلوا إلى الشوارع للثأر لدم الحريري، لم يتوحّدوا وراء “هوية” جامعة، ولا على أساس توحيد المجتمع اللبناني بثقافة تعدّدية تكون ركيزة أساسية من ركائزه، بل وراء مشروع سياسي لتحرير لبنان من الاحتلال السوري. بمعنى آخر، إنَّ التحركات، منذ العام 2005، وحتى اضمحلال قوى “14 آذار”، العام 2010، لم تنتج هوية لبنانية جامعة، فيما بقي بند إلغاء “الطائفية السياسية” سيفًا مسلّطًا على رقاب المسيحيين، يُستخدم للتخويف والتهديد. ولا ننسى أنَّ الخطاب السياسي في “الشارع” لحركة أمل و”حزب الله” الذي يتمظهر باعتصامات وبنزول مسلّح، من وقت إلى آخر، يشكّل تهديدًا لكلِّ من ليس من مشربهما. وآخرها، كان ردّ “حركة أمل” في الشارع على وصف وزير الخارجية جبران باسيل رئيس الحركة، رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، بـ “البلطجي”. فكان هذا التحرّك رسالة إلى كلِّ اللبنانيين بأنَّ لا صوت يعلو فوق “صوت الشيعية السياسية”.
بناء عليه، لم يتحقّق الدمج المجتمعي العميق؛ فثقافة التعدّد التي ينبغي أنْ تمحو الحواجز بين الطوائف وتفتحها بعضها على بعض، تحوّلت إلى ثقافة فرض الهيمنة على “الآخر” في كلّ ما يتعلّق بمجريات السياسة والمجتمع. وفي ضوء تراجع المدّ العروبي عند بعض المسلمين لصالح ثقافة الإسلام، نتيجة رفض التيارات الإسلامية الأصولية، سنيّة وشيعية، لبنان الكيان المستقلّ ولبنان الطائف، وسعيها، في السرّ والعلن، إلى إقامة دولة إسلامية، أو شكلٍ من أشكال النظام الإسلامي المهيمن (حزب الله والتيارات الأصولية السنيّة وفتح الإسلام…). لم يعد التخويف يأتي، كما في السابق، من العروبة الممزوجة بالإسلام، وإنّما أصبح اليوم من الإسلام الأصولي والإسلام السياسي اللذين لا يشكلان تهديدًا حقيقيًّا للمسيحيين في لبنان والمنطقة فحسب، وهناك شواهد عديدة على ذلك في مصر والعراق وسورية وليبيا…، بل كذلك للمسلمين الليبراليين.
وبسبب ثقافة التعصّب ورفض “الآخر”، بات المرء يرى، منذ مرحلة ما بعد الطائف، “رياضة طائفية” إلى درجة التصادم في الملعب وفي الشارع، وفي الإعلام الذي يتبنّى مواقف طائفية ومذهبية لا وطنية؛ وكذلك في العمل النقابي والحزبي، وفي المدارس والجامعات. فتلاشت بذلك فرصة الدمج المجتمعي على أساس لبنان العروبي، ولم تنبثق “ثقافة التعدّد”، ويولد، بالتالي، لبنان التعدّدي الذي صبا إليه المسيحيون. إنَّ الفشل في اعتماد كتاب تاريخ موحَّد بعد الطائف لكلِّ اللبنانيين، يؤشّر إلى أزمة “الهوية”. وهذا يعيدنا إلى كتاب التاريخ المدرسي “الوطني”.
*
في إطار اعتماد عروبة لبنان في الدستور اللبناني المعدّل، العام 1990، سارت الحكومات اللبنانية، بعد “اتفاق الطائف”، في سياسة إعادة كتابته، لاعتقادها أنَّ التوافق على “التاريخ” سوف يُسهم في وحدة الثقافة، وبالتالي وحدة الوطن. وكان الاعتقاد الساذج أنَّ المسيحيّين “تعرّبوا” بموجب نصّ لم يختبروه، ورد في الاتفاق وفرض عليهم عروبة لبنان وانتمائه، وكذلك، أنّ المسلمين السُنّة، على الأقلّ، “تلبننوا” بعد حدوث مصالحةٍ في وجدانهم بقبولهم تقديم “لُبنانهم” على عُروبتهم. لكن غياب “ثقافة التعدّد”، عند المسلمين، كان كارثيًّا على كتاب التاريخ، وبالتالي على “الانصهار الوطني” الذي تحدث عنه “اتفاق الطائف” والدستور اللبناني.
بين الأعوام 1992 و2010، تشكّلت أربع لجان من مؤرّخين جامعيين لوضع منهاج كتاب التاريخ المدرسي بإشراف “المركز التربوي للبحوث والإنماء”. لكن الثلاث الأولى منها، لم تصل إلى خواتيمها السعيدة، إمّا بسبب انتقادات سياسية بهدف عرقلة ظهور كتاب تاريخ موحّد، وإمّا بسبب الإدّعاء بأنَّه يجري أسلمة تاريخ لبنان، أو مراعاة الاحتلال السوري للبلاد. ولم يُثمر الجهد المبذول سوى عن صدور كتابيّ “نافذة على الماضي 1 و2” لتلامذة السنتين الثانية والثالثة. كما لم تنجح محاولة وزير التربية
والتعليم العالي د. حسن منيمنة العام 2010، بتشكيل لجنة أعضاؤها من المؤرّخين الحزبيّين، مع بعض المؤرّخين المستقلّين، ومنهم مؤلّف الكتاب، في الوصول إلى خاتمة سعيدة. إنَّ اعتقاد الوزير أنّ وجود هذه “التركيبة” من المؤرخين سوف يُسهّل مرور المنهاج في مجلس الوزراء، بُني على أساس أنّ حكومة سعد الحريري باقية في السلطة.
ولمّا كانت رغبة منيمنة، وهو مؤرّخ في الأساس، هي في كتابة تاريخ لبنان، حتى العام 2010، بما يتضمّنه من إشكاليات الحرب الداخلية، بين الأعوام 1975 و1990 وتداعياتها، ومرحلة الاستفراد السوري بلبنان، و”المقاومة المسيحية” له، والخلافات الداخلية حول سلاح “حزب الله”، ثمّ اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، العام 2005، وتداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان، العام 2006، وأحداث بيروت، في أيار، العام 2008، فقد ظهرت، بوضوح، الخلافات بين أعضاء اللجنة الحزبيّين والمستقلين عند وضع منهاج السنة التاسعة الأساسية الذي يتناول تاريخ لبنان المعاصر، وبخاصّة خلال حرب لبنان. وقد تمكّن الوزير من حلّها عبر “تسويةٍ” لصالح قوى “المعارضة”، حينذاك. فتمّ التلاعب بالعبارات والمصطلحات، ولم تعد هناك مقاومة للاحتلال السوري، ولا شهداء من جانب مَن سقط من الميليشيات المسيحية، واقتصرت “الشهادة” على من سقط من “المقاومة الإسلامية” في معركة تحرير لبنان. وهذا دليل على رفض “الآخر” والاعتراف به، حتى بمآسيه ونضالاته، وإنْ كانت من وجهة نظره. كما تمّ حذف عبارات من هنا وهناك. وقد وعد الدكتور منيمنة المعترضين على “التسوية”، ومنهم المؤلّف نفسه، بأنْ يقوم مجلس الوزراء بتصويب الاختلالات التي سيجري لفتُ انتباهه إليها، وأُحيل المشروع إلى مجلس الوزراء، بتاريخ 10 آب العام 2010، بعد أنْ مرّ عبر “مجلس الشورى”. لكن سقوط حكومة الحريري، في 12 كانون الثاني العام 2011، ومجيء حكومة نجيب ميقاتي التي تشكّلت من “المعارضة”، شكّل رصاصة الرحمة على مشروع المنهج. فما هي الموضوعات التي جرى حذفها، وكيف تمّ نسف منهاج التاريخ، وبالتالي رفض التعدّدية المجتمعيّة؟
صحيح أنَّ ما ذكرته اللجنة الوزارية بأنَّ المرحلة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، العام 2005، لا يمكن اعتبارها محسومة تاريخيًّا، نظرًا إلى تداعياتها المستمرّة حتى اليوم، لكنّ حذفها كان لغاياتٍ سياسية وكيدية. كما جرى حذف الحضارة العبرية من درسٍ رئيسي، ما يُسهم في تجهيل الناشئة حول فكر الكيان الصهيوني. كذلك، تقدّم وزير “حزب الله” محمد فنيش باقتراحات لإضافة 27 قرية شيعية و17 شخصية شيعية إلى المنهاج، وجرى حذف مرحلة اعتصام حزبه في وسط بيروت التجاري بين نهاية، العام 2006، حتى أواخر أيار 2008، وأحداث أيار، العام 2008، وتداعياتها، في حين أراد الوزير علي قانصو إدخال بعض “التصويبات” التي تُبرز نضال حزبه “القومي السوري الاجتماعي”. ومن الطبيعي ألاّ تؤدّي هذه “الاستنسابية” ووضع كلّ طائفة “أبطالها” و”رموزها” ومُدنها وقراها في المنهاج، بمنطلقات ثقافية – مذهبية وسياسية ضيّقة، بالحجم الذي أراده الوزير فنيش، إلى ظهور كتاب تاريخ وطني، فضلًا عمّا يسبّبه ذلك من خلل في المعايير التربوية؛ فعندها تتلاشى الغاية منه، ولا يعود كتاب تاريخ وطني هدفه “الانصهار الوطني” والهوية، بل يصبح تاريخ الطوائف وتاريخها المؤدلج ومصالحها.
ويعتقد المؤلّف، أنَّ مجتمعًا منقسمًا على نفسه، ثقافيًّا وسياسيًّا، لا يمكن أنْ يوحّده كتاب تاريخ، يقوم على التعبئة الأيديولوجية، والانغلاق، والتعصّب، وتضخيم الخصوصيات، ورفض “الآخر”، في حين أنَّ مجتمعًا متماسكًا وراء فكرة الوطن للجميع، في الحيّ وفي المدرسة والجامعة وسوق العمل، وعلى الحدود الجنوبية والشرقية…، هو الذي ينتج كتاب تاريخ موحّداً، أو على الأقل، منهجًا، يُتفق عليه، ويكون التأليف عندئذ مفتوحًا لمن يشاء. فليس كتاب التاريخ هو الذي ينتج هوية للبنان، كما اعتقد واضعو “اتفاق الطائف”، بل وجود “ثقافة التعدّد” التي تؤدّي إلى توافق مجتمعي وسياسي على الهوية أولًا، أي على “التعدّدية الثقافية”، وهنا تكمن المعضلة التاريخية التي لا يبدو أنَّها في طريقها إلى الحلّ أو التسوية، في ظلِّ ثقافة “الأنا” والاستقواء على “الآخر”، وغياب “ثقافة التعدّد”.
ومع “حزب الله” تلاشى أي أمل في الوصول إلى مجتمع تعدّدي عبر “ثقافة التعدّد”. صحيح أنَّ الحزب يدّعي منذ العام 2012، أنَّ هدفه الوصول إلى الدولة المدنية “المؤمنة”، إلّا أنَّ ذلك للتعمية فقط. ومن دون تفنيد دولة حزب الله “المؤمنة”، فأنَّ سياسة الحزب على أرض الواقع تقوم على تعميم ثقافته الدينية على المجتمع داخل “حيّزه” الجغرافي السياسي والعسكري، وتوسيع مروحة “رأيه” على “الآخر” خارج مربعه الأمني. فلا توجد في “دويلته” مساحة من الديمقراطية السياسية والاجتماعية، بحيث يستيطع المرء أنْ يمارس حرية القول والنقد والتعبير، ولا أنْ يُترك الناس يقرّرون سلوكياتهم وأنماط عيشهم، وفق مشيئتهم وخياراتهم، وكأنَّه يقول لهم: “هذا هو لبناننا، وعليكم القبول به” .
وتتجسّد بعض المظاهر المذهبية التي يفرضها الحزب على الأرض، في ثقافة “الحلال والحرام”، عبر إغلاق محال المشروبات الروحية، ومنع حفلات الغناء والطرب، وتفجير مطاعم قبيل أعياد رأس السنة لإعلانها عن حفلات غنائية، وكذلك منع مشاركة الفتيات في مسابقات رياضية، والقفز فوق سلطات الدولة اللبنانية، بمنع الفنّان الفرنسي المغربي الأصل غاد المالح، العام 2005، من الدخول إلى لبنان لإحياء حلفة غنائية في بيت الدين. كما منع “الدبكة” في إحدى المهرجانات القروية في الجنوب، بذريعة أنَّها تؤدّي إلى شبك الأيدي بين النسوة والرجال، حتى طال المنع أغنيات السيّدة فيروز في كلية الهندسة بالجامعة اللبنانية في الحدث. وفي الفرع الخامس للجامعة ذاتها، تتمّ مضايقة الفتيات السافرات، وتهديدهن في حال عدم التزامهن الحجاب الشرعي.
وفي العام 2009، طالبت “التعبئة التربوية” في “حزب الله” عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في “الجامعة اللبنانية” بسحب كتاب التاريخ الوسيط (كور) من إعداد أستاذة شيعية في قسم التاريخ – الفرع الأول، ومنع تداوله، كونه يتضمّن حملات “التأديب” التي كانت الدولة المملوكية تشنّها ضدّ الشيعة العصاة. وسوّغت التعبئة ذلك، بأنَّ استعمال هذا المصطلح من قبل الأستاذة هو: “قلّة احترام لفريق إسلامي عريق و”اتهام” له بالتعاون مع الفرنج والمغول الخارجيين، وهذا خلاف تاريخ الشيعة المشرّف إسلاميَّا وجهاديًّا ضدّ المحتلّ”. بمعنى آخر إنَّ “الكتاب” يُسيء إلى الطائفة الشيعية كونها طائفة مقاومة عبر التاريخ. وطلبت “الهيئة التربوية” من الأستاذة “تقديم الاعتذار” للعميد، “مع التعهّد بعدم التحامل على الطائفة الشيعية الإسلامية، وبلغة لا تليق بالأستاذ الجامعي…”
هكذا، يتبيّن أنَّ لا أمل في الوصول إلى تعدّدية ثقافية في لبنان تكون مخرجًا له من أزماته، لانتفاء “ثقافة التعدّد”، ولأن الفريق المهيمن على الدولة والمجتمع يريد أنْ يختصر بثقافته الأحادية كلّ الثقافات الأخرى. ويبقى الصراع الثقافي مفتوحًا على كلِّ الاحتمالات.
****
(*) من كتاب “المدن الأقطاب في لبنان: بيروت – طرابلس – زحلة – صيدا” للدكتور عبد الرؤوف سنو الذي يصدر قريبًا.