هوشعنا لابن داوود…

   

أحد الشعانين

يوحنَّا 12، 12-22

نتأمَّل، في هذا الأحد المبارك، بدخول المسيح إلى أورشليم دخول الملوك، حيث استُقبل بالنخيل والزيتون وهتاف الهوشعنا من أفواه الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، ونقف عند أمور أربعة:

1- الناس يعلنون يسوع ملكًا

ذاع خبر المعجزات التي كانت نتيجتها شفاء الأبرص والنازفة والمخلَّع والأعمى وآخرها قيامة لعازر من القبر بعد ايَّام على موته، فعاش الناس زمن تحقيق النبؤات، وبات ثابتًا لديهم أنَّ يسوع هو المسيح إبن داود، فنادوا به ملكًا، فكان ذلك الاستقبال الذي خلعوا فيه ثيابهم ليمشي عليها الملك المبارك الآتي باسم الربّ.

رأى الناس في يسوع تدخُّلاً إلهيًّا واضحًا في تاريخ شعب الله، وإن لم يحسنوا تفسير هذا التدخُّل أو قراءته كما يجب. في هذا اليوم وقف شعب الله كلُّه إلى جانب المسيح الملك، بينما وقفت السلطتان المدنيَّة والدينيَّة موقفًا مناهضًا له. يريد الشعب مصلحته ويطلب الخلاص من ظلم الحكَّام سياسيًّا، مدنيًّا، اجتماعيًّا، ماليًّا، عسكريًّا، وحين رأى أعمال يسوع وسمع بموافقه تجاه السلطات الجائرة، رأى فيه المنقذ من الواقع المرّ، كما رأى فيه رحمة الله وافتقاده لشعبه فسار وراءه ونادى به ملكًا. موقف الشعب هذا هو موقف كلِّ مظلوم طال ظلمه، فبحث في قرارة نفسه وفي لاوعيه الجماعي عن مَن يخرجه من ضيقه، تمامًا كما نفعل نحن اليوم، حين تكثر المفاسد والأحكام الجائرة، فنبحث عن منقذ مخلِّص حتى ولو وقف جميع الفاسدين ضدَّه.

تنبَّأ الشعب كلُّه عن مستقبل يسوع القريب والبعيد، من دون أن يعرف تمام المعرفة ما هو مجرى الأحداث التي ستحقِّق هذه النبوءة. لم يعرف أنَّ بلاطس سيعلن المسيح ملكًا، لكن على الصليب، كذلك لم يعرف أنَّ الله سيعلنه ملكًا في ملكوته الأبدي، تحقيقًا لكلمة الملاك لمريم: «سيملك على بيت أبيه إلى الأبد».

2- يسوع يقبل هذا الإعلان في الظاهر

يبدو في الظاهر أنَّ يسوع قبل استقبال الشعب الملوكي وترك الأحداث تمشي كما هي، وإن كانت له غاية أخرى، علمًا أنَّه رفض ممالك الأرض كلَّها حين جُرّب في صحراء صيامه. دخل يسوع أورشليم حيث سيُلقى القبض عليه ويتألَّم ويموت ويقوم، فيغدو بكر الراقدين وبكر الخليقة الجديدة. تجلّى المسيح أمام ثلاثة من تلاميذه وأظهر لهم مجده وحقيقته الإلهيَّة قبل آلامه، فكان التجلِّي مبادرة من المسيح لإعلان ملكوته، أمَّا يوم الشعانين فقبل به يسوع على أنَّه مبادرة من الشعب الذي قبل بمُلك المسيح، وإن لم يعرف أيَّ نوع من الملوك هو.

دخل يسوع أورشليم ملكًا في الظاهر متألِّمًا في الداخل. هو يعرف أنَّ درب الصليب بانتظاره، وأنَّ خلاص الناس ليس بمَلِكٍ يمشي على ثيابهم ويسمع تهاليلهم، بل بتحقيق العدل الإلهي من جهة والرحمة الإلهيَّة من جهة أخرى. كذلك خلاصهم في أن يبصر الذين لا يبصرون، اي أن يعرف الحقيقة كلُّ من تاه عنها، وأن يدركوا مؤمنين مصدِّقين أنَّ الله الآب لا يريد موت الخاطئ بل توبته وخلاصه، وقد عبَّر يوحنَّا الرسول عن هذا بقوله: «الحياة الأبديَّة هي أن يعرفوك أنت أنَّك الإله الحقيقي».

3- المسيح يصعد إلى العيد

حين سأل التلاميذ يسوع: «هل أنت صاعد إلى العيد؟» أجاب بالنفي ثم قرَّر الصعود ودخول أورشليم حيث العيد زينة وفرح وحملان تذبح تكفيرًا عن الخطايا، وهرج ومرج احتفالا بذكرى التحرُّر من أرض العبوديَّة. فإلى أيِّ عيد من الأعياد صعد يسوع؟ إلى فصحٍ لا يمكن لذبائحه أن تغفر الخطايا وهو الحمل الذي يحمل خطايا العالم؟ أو إلى ذكرى التحرُّر وهو من نادى مرارًا: «الروح يحرركم»، والفداء وحده يدفع ثمن الخطيئة مهما كبرت واتسعت وامتدت من آدم إلى آخر مواليد النساء؟ أم إلى عيد الاستقبال بالنخل والزيتون على أيدي من رأوه منقذًا؟ أم إلى عيد الصلب على أيدي من رأوه مخالفًا للناموس ضاربًا بالتقاليد والأعراف عرض الحائط، رافضًا أن تكون الخمرة الجديدة مخزَّنة في الخوابي العتيقة؟

صعد يسوع إلى العيد لأنَّه يعرف، وحده يعرف أنَّ الفرح الحقيقي لا يمكن أن يحلَّ في قلوب الناس، طالما أنَّ دمعة الخطيئة واضحة المعالم في قلوبهم وعلى أجسادهم وبين حنايا أفكارهم. هو يعرف وحده أنَّ عدل الله لا يمكن إلاَّ أن يتمّ وأنَّ رحمة الله لا يمكن إلاَّ أن تتجلَّى. وحده يعرف أنَّ موته وقيامته ينهيان هذه المسألة العالقة منذ بدايات الخلق ومنذ وعد الله الإنسان بالخلاص.

صعد إلى العيد الذي غاب عنه إنسان ربَّما يعرف، بطريقة ما، ما كان يعرفه يسوع بطريقته الخاصة. غابت مريم التي لم يأتِ الإنجيل على ذكرها يوم الشعانين، علمًا أنَّها كانت حاضرة في فرحة الناس في عرس قانا وستكون حاضرة في اللحظة التي يتمُّ فيها موت الخطيئة وموت الشيطان وموت الموت على الصليب. لعلّ غيابها مبرَّر بأنَّ الملِك يوم الشعانين، هو ملك أرضيٌّ ليوم واحد، أمَّا مَلِكُ الصليب القائم من الموت فهو الملك إلى الأبد.

4- نحنُ والشعانين

أمام هذه الحقائق، هل يحلُّ لنا اليوم أن نجعل من عيد الشعانين عيدًا بشريًّا فولكلوريًّا، تزيّنُه الملابس وتأخذ روحانيَّته الكاميرات؟ هل نحن اليوم أفضل من الذين استقبلوا المسيح يوم الشعانين وتركوه وحيدًا يوم الجمعة العظيمة؟

كلُّنا اليوم يملِّك على نفسه وعياله ملوكًا من الأوثان والأحقاد والمقتنيات والناس الفاسدين. فالشعانين دعوة عامَّة إلى اليقظة لنعرف مَن هو ملكنا الحقيقي، ومن هو سعادة شعبه، ومن يموت عنَّا حبًّا بنا، ونميّز بينه وبين من يُميت الناس ليسعد هو.

اترك رد