بين الخير المؤقَّت والخير الدائم…

 

احد الأعمى

مرقص 10، 46-52

نتأمَّل، في هذا الأحد المبارك، بمعجزة شفاء الأعمى الذي شهد للمسيح بأنَّه إبن داود طالبًا إليه الرحمة واستعادة نور البصر، فكان دليلاً عمليًّا وكلاميًّا على مسيحانيَّة يسوع الذي تنبَّأت عنه الكتب حين قالت: «العرج يمشون والموتى يقومون والعميان يبصرون»، ونقف عند ما يلي:

1- سيروا ما دام لكم النور

حين حدَّد المسيح نفسه بأنَّه نور العالم وأتى لكي يبصر الذين لا يبصرون، قصد، من جملة الأمور التي عناها بكلامه، أنَّ معرفة الحقّ هي معرفة الله كما يريد الله أن يعرفه الناس لا كما يريد الناس أن يعرفوا الله ويجعلوه بحجم معرفتهم المحدودة، عوضًا عن أن يرتقوا بمعرفتهم إلى مستوى اللامحدود. وبهذا أراد أن يبيّن لنا إحدى طرق المعرفة التي، وإن كان الانسان يميل بطبعه إليها، فهي لا تتمّ إلا من فوق أي بالوحي الإلهي. وحين لا يفهم الناس تمام الوحي بعقلهم، فهذا لا يعني أنَّ الوحي غير مفهوم، بل يعني أنَّ العقل لم يصل وحده إلى إدراك ما لا يُعقل. وما كلمة بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيِّين: «لقد كلَّمنا الله بأساليب شتَّى وأخيرًا كلَّمنا بابنه» إلاَّ الشرح التاريخي لكلمة المسيح: «أنا نور العالم». أمَّا السير بحسب هذا الدور فيعني السلوك الشخصي والمجتمعي بحسب هدي الإنجيل وتعاليمه وأوَّلها المحبَّة.

2- المسيح نور العالم

قال المسيح صراحة: «أنا نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظلام». يعني هذا الكلام أنَّ الاهتداء إلى الطريق والحقِّ والحياة لا يمكن إلاَّ أن يكون باتِّباع المسيح، النور الحقيقي الذي من يراه يرى الآب ويعرف أنَّه الإله الحقيقي فينال الحياة الأبديَّة. نور العالم هذا، لم يكتفِ بإنارة القلوب والعقول بل تعدَّاها إلى إنارة الجسد، فردّ البصر إلى الذين لا يبصرون وجعلهم يرون جمال الخليقة ويفتح لهم نافذة أساسيَّة للاتِّصال بالعالم.

هذه الأعين التي جعلها الله لنرى جمال خلقه، تضحي أحيانًا سببًا للشكِّ ولخسارة المجد السماوي، فالعين التي ترى الجمال الربَّاني بإمكانها أن ترى ما يثير الغرائز ويسبِّب الشهوات سواء كان في مقتنى الغير أو امرأة القريب، لذلك حذَّر المسيح الإنسان من خطورة هذا الأمر فقال: «إذا شكَّكتك عينك فاقلعها، فخير لك أن تدخل السماء وأنت أعور من أن تدخل جهنَّم بعينين اثنتين».

3- لا تجعلوا هذا النور الذي فيكم ظلامًا

لم يكن هذا النور يومًا غريبًا عن الإنسان، فقد وضع الله، حين نفخ في الطبع البشري، من روحه شعلة تهديه في ظلمات الخيارات التي يجد نفسه مضطرًّا للعمل بواحد منها. وهذا النور هو كيانيُّ وقد عبَّر عنه مار توما الأكويني بقوله: «الإنسان يعرف الخير بالمَيل»، أي أنَّه يميل أصلاً إلى الخير ويتجنَّب الشرّ. وكلمة الإنجيل: «لا تجعلوا النور الذي فيكم ظلامًا» تعني ضرور التنبُّه واليقظة الدائمة والعمل الدؤوب من أجل أن تبقى هذه الشعلة متَّقدة، وقد جاء المسيح، بالفعل وبالكلام، ليقوِّي هذه الشعلة ويميت الخطيئة التي تضع الظلام في قلب الإنسان وعقله وضميره، فيتَّجه نحو الشرّ وسوءالعلاقات والمعاملة العاطلة. هذا يعني أنَّ سرّ الفداء، الذي أصلح تشويه صورة الله في الإنسان وأعاد إليها البهاء الناصع، لا يمكن أن يفعل فعله بمعزل عن دور الإنسان الذي عليه أن يعيش كيانيًّا وسلوكيًّا هذا السرّ، كي يبقى النور الذي زرعه الله فيه متوهِّجًا لا تغلبه الأشواك ولا تأكله الطيور.

4- يا ابن داود إرحمني

بادر أعمى أريحا يسوع المسيح قائلا: «يا ابن داود إرحمني»، وفي هذا الكلام اعتراف بأنَّ يسوع بن مريم هو المسيح بن داود الذي تكلَّم عنه الأنبياء والكتب. أعمى أريحا الذي ولد أعمى، وحسبما يشير اسمه هو طيما بن طيما أي أعمى ابن أعمى، لم يمنعه فقدان البصر من التعرُّف على حقيقة المسيح وكأنَّ المصلحة الفرديَّة والتقيّد الأعمى بالناموس اللذين أعميا بصائر الكتبة والفرِّيسيِّين، لم يمنعا أعمى أريحا من الاهتداء ببصيرته لا ببصره، للتعرُّف على يسوع المسيح والاعتراف به مسيحاُ ابن داود. هذا النداء حمل في معانيه الرجاء المسيحاني اليهودي من جهة، أي انتظار الشعب اليهودي لمسيح يأتي من نسل داود، وعلى مثاله يردّ العزة والمجد لشعب الله المختار، وصورة عن الرجاء المسيحي في عودة المسيح يوم يصبح الكلُّ واحدًا، وندخل المجد السماوي حول المسيح القائم من الموت، من جهة أخرى.

5- العلامة النبويَّة الدالّة على مجيء المسيح

حين أرسل يوحنَّا المعمدان يسأل يسوع: «هل أنت المسيح أم ننتظر آخر؟» أحاب يسوع: «اذهبوا وقولوا ليوحنَّا: العرج يمشون والعميان يبصرون والصمّ يسمعون والمرضى يشفون وطوبى لمن لا يشكّ فيّ»، فاستنتج يوحنَّا أنَّ هذا الرجل هو المسيح، لأنَّ العلامات التي ذكرها الكتاب المقدس عن مجيء المسيح، هي هي التي ذكرها يسوع، فقال: «عليّ أن أنقص وعليه أن ينمو».

6 إدراك الإنسان لحجم النقص الذي فيه

أدرك أعمى أريحا هول النقص الذي يحرمه فرح مشاهدة جمال الخليقة من الطبيعة ومن الناس وأعمالهم، فعانى عمره كلَّه من هذا النقص وتوَّلدت في كيانه رغبة جامحة للخروج من هذا الواقع المؤلم نفسًا وجسدًا، لذلك حين سأله المسيح: «ماذا تريد؟» أجاب فورًا: «أن أبصر».

حَسَنٌ أن يدرك الإنسان حجم النقص الذي يصيب جسده فيمنعه من التعاطي في أمور الدنيا بالطريقة نفسها التي يتعاطى معها الإنسان الذي لا يشكو من هذا النقص. لكنَّ الأحسن منه أن يعي الإنسان هول النقص الذي يحرمه من مشاهدة خيرات السماء، قال المسيح: إن شكَّكتك عينك فاقلعها وإن شكَّكتك يدك فاقتطعها، فخير لك أن تدخل السماء وأنت أعور أو أكتع، من أن تدخل جهنم وأنت من دون نقص جسدي. بهذا الكلام أوضح المسيح أفضليَّة الحياة الباقية إلى الأبد على جمال الحياة الأرضيَّة التي تنتهي بالموت، مهما بلغت من الجمال والفرح والمتعة.

بقي علينا أن ندرك ونختار بين الخير المؤقَّت والخير الدائم. يحرمنا العمى من خير مؤقَّت بينما تحرمنا الخطيئة والابتعاد عن اتِّباع الطريق المستقيم، الذي يرسمه لنا المسيح بكلامه وأفعاله، من الخير الدائم ومن الوصول إلى خير السماء. فالعين والأذن والحواس وقوى الجسد، أمور أعطيت لتخدم خير الإنسان، وحين لا يُحسن هذا الأخير استعمالها تصبح وسيلة تسهّل طريق الهلاك.

7- ماذا تريد؟

سأل المسيح هذا الأعمى: «ماذا تريد؟». بهذا الكلام يعطيه، كما يعطي كلَّ مؤمن، حريَّة الاختيار، إنَّما الطريف أنَّ هذا الأعمى عرف ماذا يريد، لذلك قال: أريد أن أبصر. اليوم، إذا سَألنَا المسيح السؤال ذاته، هل نستطيع أن نجيب بالسرعة التي أجاب فيها الأعمى ونحدِّد طلبنا؟ ألا يطلب بعضنا مالاً أو صحَّة أو معجزة ما، ثم يتردّد ليطلب أمورًا يراها أهمَّ ممَّا طلبه أوَّلا؟

قال المسيح: «أطلبوا أوَّلاً مجد الله وبرَّه والباقي يعطى لكم مجَّانًا»، فهل نحن في صلاتنا كلَّ يوم وفي زيارتنا الكنائس نطلب مجد الله أم نطلب تحقيق رغباتنا؟ ألا يطلب البعض منَّا أمورًا غير صالحة من الله كتلك «الأدعية» التي نتلفَّظ بها لينتقم الله من خصم أو من أحد جَرحَنا أو تعدَّى على حقوقنا؟ بلى، لذلك علينا أن نأخذ الأعمى أمثولة ونطلب دائمًا ما هو خير لنا وللآخرين، وإذا ما تحقَّق الخير يتمجَّد الله حُكمًا.

8- هل يعرف الإنسان ماذا يريد؟

عرف الأعمى ماذا يريد ونال طلبه، فهل نعرف نحن ماذا نريد على الصعد الفرديَّة والعائليَّة والوطنيَّة والإنسانيَّة؟ هل نعمل في سلوكنا اليومي ما يساعد على الحصول على ما نريد؟ هل نعمل لننال الطوبى التي وعدنا بها يسوع في العظة على الجبل حين قال: طوبى لفاعلي السلام والودعاء والجياع والعطاش إلى البرّ وللرحماء لأنهم سينالون لقاء فعلهم هذا، نعمة السعادة مع الحياة الأبديَّة؟

على الصعيد الفردي. على الفرد أن يريد لغيره ما يريده لنفسه، شرط أن ينسجم ما يريده لنفسه مع ما أراده الله، أي الكرامة والحريَّة والحياة على هذه الأرض والسعادة في السماء.

على الصعيد العائلي. على العائلة أن تريد ما رسمه الله لها في القانون الطبيعي وفي قدسيَّة السرّ، كالأمانة والتربية والمسؤوليَّة ورعاية الأبناء والعلم والراحة وكلِّ ما يساعد الإنسان على تحقيق الذات.

على الصعيد الوطني. يستدعي الوطن أن يعرف المواطن ما هي حقوقه وما هي واجباته تجاه الوطن الذي ينتسب إليه، من هنا ضرورة السيادة والحريَّة والبحبوحة والسلام والسهر على الخير العام.

على الصعيد الإنساني، على الفرد أن يدرك أنَّ هذا المستوى يتطلَّب الشعور بالأخوَّة الإنسانيَّة والتلاقي على قواسم مشتركة تجمع الناس، مهما اختلفت ثقافاتهم وعاداتهم وألوانهم ودياناتهم. كلُّ هذه القواسم المشتركة تصبُّ في الخير العام الذي يساعد الناس على أنسنة سلوكهم في المجتمع الذي يعيشون فيه.

9- موقف المسيح

أجاب المسيح من دون أي استيضاحات على طلب الأعمى، فأعطاه البصر، مع العلم أنَّ المسيح يعرف أنَّ هنالك ما هو أفضل من البصر وعلى الانسان أن يطلبه، إنَّه غفران الخطايا، لكنَّ المسيح يعرف كيف يكون سبب فرح على هذه الأرض لمن يلجأ إليه، إلى جانب كونه سبب سعادة أبديَّة في العالم الآتي. هذا ما عابه عليه الكتبة والفرِّيسيُّون، حين لمس الأبرص فطهر ولمسته النازفة فشفيت وقال للمخلَّع: «قم واحمل سريرك»، وفتح عيني الأعمى، كأنَّهم قد نسوا أو تناسوا كلمة النبي: «حمل أوجاعنا وأخذ عاهاتنا». همُّهم قبل كلِّ شيء أن يبقوا هم في المقام الأوَّل بنظر الشعب، وكلُّ من يأتي بخيرٍ ما، أو بحبٍّ ما، يشعرون كأنَّه يسلبهم هذا المقام فيحاربونه تحت ستار التهم بالتجديف واختراق الشريعة، ويتآمرون كيف يقتلونه.

اترك رد