قليل من البهجة قليل من الأمل، وقليل من الوقت، وقليل من الحشد ومن الناس، أشيع ارملاتي (سنيني، ذكرياتي، تاريخي، مدائني) بلسان مشلول النطق والتذوق لرغبة .. لجوهرة زاغت عن اللسان.
سأرفع راياتي بلسان السارية لكنّ أمام العالم الممسوخ من الذهب والمنشأ على عظام الأجداد وهياكله المشيدة على جماجم الذاكرة الفانية .. الأجداد المدفونين تحت أسوارك ، تحت أضلعي، حين عصفت بهم الريح والحقب، عصفت بآثارهم وتركاتهم ، عصفت بنا نحن الأحفاد ، إلى هناك حيث الوادي المقدس، هناك فوق صخرة وتحت شوكة، فوق جادة الطريق لتسحقها أقدام العابرين الحفاة، وتذكر (يا بني لا تنس سريعتي وليس قلبك وصاياي فإنها تريدك طول أيام وسني حياة، وسلاما) سفر الأمثال /إصحاح/3.
يا أرملاتي المحمولات على صونجات الغجر، أطوف بمواكبي المسرعة نحو الردم، نحو الأعماق، تحت الموتى، تحت العظام ليدفنني معكن، أغوص أتكور في لج الأرض أهيم بصمت الناي ورطب العذارى وحزوز السيوف ..
أناديكن يا أرملاتي المنحرفات عن كل المواكب الملونة، فاليوم عرس وسرائر، واليوم تنثر الشمس خيوطها على الحشود وعلى الإله وعلى المجد وعلى أشرعتي المتعثرة بالمطارق واليوم تلد الغيوم دماً وبرقاً وإنكار شمس خلف العالم، خلف السدم، خلف ( الطفوف )* تلّد سنيناً من الملح ، تلّد أنبياء في تلك الجزر المالحة الميتة ..
أنبياء يمسحون جلدهم بالبلور، بالأكف التي تنعب ، يمسحون جباه الطيور، يمسحون الخطايا ، يمسحون المجد بالقبور، فيرش الرب ملحاً اسوداً مخضبا..
ودخلنا القبور..
فخرجت الأرض..
ودخلنا نحن في أيدينا تواريخ المدائن التي لم تعد مدنا..
الضليلون لم يخرجوا من اللعبة للان، ساقونا إلى الظلمات، ساقوا عشتار إلى الأسفل تبحث عن تموز الضائع بين الطبقات وبين الأنقاض، وبين قش العبر، خرجت الأرض منا، وبنوا هم المدائن كتبوا التاريخ والملاحم وأكلوا الهريس وشربوا عصير القصب والعنب وتمتعوا بشدو الناي بعد فك عقدة لسانه … وما زلنا ندخل القبور أرتالاً وحشوداً ونخرِج القبور منا نحن الأموات، نحن الذين فقدنا المدائن وفقدنا الذكريات وهويتنا تحت الأسوار، ننتظر لعبة أخرى نجيدها، لعبة أخرى من صنع أيدينا، ننتظر تاريخا يخرج من أيدينا ومدنا تخرج من التاريخ، مدنا تخرج من الجب ولن تعود، مدنا مطلية بزرقة السماء ودفئ العشاق … ودعنا نشيد مقابر متأرجحة على الأصابع، دعنا نشيد الجدران معدنا تلو معدن لتولد السلالات … دعنا نعد النجوم والكواكب، دعنا نبحث بين المجرات عن هواء خال من المعدن، عن بيت آمن بلا حراس بلا قوى تجذبنا وتنفرنا ….
أنا وحدي ارسم هيكل الصورة وأزججها بالمعدن وأعلقها على مدخل أول مدينة هناك حيث جنود (أوروك) واعلق بجوارها بندقية تشير فوهتها نحو أول لوح، وأول إيماءة من تموز لعشتار لزرع سنبلة في ضلعي، وأول خطيئة (ليوليسيز) ألقيت في البحر..
ووسامتك لا تليق بهذا الإطار الممعدن الصدئ، ابحث عن صورة تتجانس مع الشريط الأسود، صورة أنا أجسمها بذلك الفحم (المعدن) صورة بهية بالسواد المعتق بالظلام والمدائن، صورة أزلية منذ فجر السلالات حتى عصر الضياع، وعصر المنطاد الطائر فوق البحار، وفوق المحطات العاملة والعاطلة، وفوق الأنقاض، وفوق المدائن التي لم تولد للآن … المدائن التي خلت من العشاق والذكريات والمواعيد والسلام ..
هناك العب في تلك الزاوية المشتعلة وتحسب فان النحاس معدن وان الإلكترون يسري بسرعة خارج مديات الزمن، واحذر الانقياد والتدحرج من على تلك الزاوية كي لا تسقط .
ارملاتي لا تمجد القبعات المرفوعة تحت الرغبة المشتعلة ، لا يطفأها البحر ولا خيانة (يوليسيز)، والزجاجة امتلأت بالبنزين، ويدي تمتد بالإسفنج ولها القدرة على امتصاص الذهب وإفراغ الزجاجة، والبحر يحترق بنكهة مني، أنا الذي رفعت الراية كل مساء حين يشتعل المعدن وتقرع الأجراس، وما زالت أعلامي مرفوعة تحسباً للعبة أخرى للمعدن ولابتكار جديد (لابن جني) والفراغات .
***
(*) الطفوف إشارة إلى واقعة ألطف في كربلاء.