في “اعترافات جامحة” لنهاد الحايك، الحب يلامس التعبُّد

أول كتاب شعر أقرأه حتى النهاية

    

لفتني على الفايسبوك عنوان “اعترافات جامحة”، وهو ديوان شعر لنهاد الحايك. كما استوقفتني مقاطع قصيرة من الديوان كانت نهاد تنشرها على صفحتها بين الحين والآخر. وقلت في نفسي، لا شك أن نهاد الحايك قد غامرت بنشر ديوان في زمن تراجع فيه بشكل كبير عدد قراء الكتب على أنواعها في لبنان، وخصوصاً كتب الأشعار. ومع أني لست من فئة أعداء القراءة، أنا من الذين لا يقرأون الشعر عامة، والشعر الحديث بالأخص. بل أحب قراءة الروحانيات الفلسفية لأنها تساعدني في فتح قلبي أمام الله-المحبة، خصوصاً وأن حالتي الصحية ألزمتني المنزل لسنوات طويلة.

وقد أثار هذا العنوان فضولي وأثارت المقاطع المنشورة شهيتي لقراءة المزيد، فقررت اقتناء الديوان. وشاءت الصدف أن إحدى صديقاتي سألتني ماذا أحب كهدية لمناسبة عيد ميلادي، فقلت لها أود الحصول على ديوان شعر “اعترافات جامحة” للشاعرة نهاد الحايك. وهكذا حصلت على الكتاب.

ما أن فتحت كتاب “اعترافات جامحة” حتى جرفني تيار قوي من كلمات حركت خيالي الراكد، في خلوتي القسرية. توالت المشاهد والصور قصيدة تلو القصيدة بكثافة شلال دفعني إلى التوغل عميقاً في موجات من أحاسيس ومشاعر إنسانية عالية برقتها وشفافيتها وأبعادها الفلسفية والوجودية.

يتألف الديوان من أربعة فصول: الأول في الوطن بعنوان “كأنني بدَّدتني بلادي”؛ والثاني في الحب بعنوان “الحب، يقيناً على قارعة الأوهام”؛ والثالث في العلاقة مع الكلمة والكتابة بعنوان “حورية مضرَّجة بالحروف”؛ والرابع في مواضيع الحياة والموت بعنوان “ماءٌ لنهر الأحلام”. وقد يكون الحب في أشكال مختلفة هو الخيط الواصل بين كل قصائد وفصول الكتاب.

   

انصهار وذوبان واحتراق وتخطٍ من الألم إلى آفاق الأمل والحلم والرجاء. ففي قصيدة “أرض تولد في الذاكرة” تحكي المعاناة التي سببتها جراح الوطن، تقول:

“أقعُ كثمرةٍ أنضَجَها الألم

مُنسكِبةً مع دم الرفاق،

وبي من نسغ جذوري مرارة.”

كتبت نهاد لوعة الغربة بعيداً عن الوطن حيث قضت سنوات في الولايات المتحدة، وأيضاً “الغربة التي تصيب المرء في عقر وطنه” كما تقول في حاشية إحدى قصائدها بعنوان “دوران”:

“عناصري مشتتة

هنا وهناك.

هوائي هنا وناري هناك،

ترابي هنا ومائي هناك،

نبضي هنا وقلبي هناك،

…..

كلي هنا وكلي هناك،

أنزف في كل اتجاه،

أقف في مكان ليس بالمكان،

هو انتقال من انتقال إلى انتقال.”

أما قصيدة “احتراق” فتكاد تكون ملحمة تصف مأساة “وطن طاعن في الاحتراق”. تتساءل فيها:

“كيف لأعمارنا المثقوبة

أن تمانع الرياح؟

كيف لأشعارنا المعطوبة

أن تبلسم الجراح؟

محابرنا فاضت دماء.”

وخطرت في بالي لدى قراءة هذه القصيدة مرثية من مراثي إرميا في العهد القديم التي يرثي فيها أورشليم بعدما استولى عليها نبوكدنصر ملك بابل.

في قصائد الحب توحُّد مع الحبيب الذي يبدو بعيداً وقريباً، يقيناً وحلماً في آن.

“حين أرتقي إلى يديك،

حنيناً يلوي القصب،

تَرى طفولتي،

أتذكَّرُ صباكَ،

ينبثق من قامتِك ظِلي.”

تستمد نهاد عدداً كبيراً من مفرداتها في التعبير عن الحب من القاموس الديني، فيبدو لنا أن الحب يلامس التعبُّد.

“أنزف على صليب أحزاني

لأطِيبَ بين يديك

وقرب صدرك أرمِّم ذاكرتي.”

وأيضاً:

“يداك رياحٌ عتـيّة

تقتلع جذورَ الأمان،

كلما هبَّت عليّ

تُضمِّخني بالعطر واللون،

تنير ليلي ببركان،

تحطِّم هياكل الخفر،

تجترح في الجسد قيامة،

تخلِّصه من بؤس البشر

فيبصر من الخلود علامة.”

حتى أن بعض قصائد الحب أوحت لي بأنها قصائد صلاة، فجربتُ إزاحة شخص الحبيب ووضعتُ مكانه شخص الله-المحبة، فتحوَّل الشعر إلى صلاة عابدة، وخاصة في قصائد “تواحُد” و”توق” و”ترياق”. ومنها:

“أتوق إلى لقائك

توق الحقول العطشى

إلى مطر الصيف.

أتوق إلى رؤيتك

توق الأعمى إلى البصر.

أتوق إلى عناقك

توق الموجة إلى الشاطئ.”

قصيدة “الصراخ المكتوم” التي كتبتها الشاعرة عن والدها للتعبير عن لوعة فقدانه، موجعة جداً ورثاء أكثر من بديع:

“يفيض حضورك فيَّ

فيضاناً كاسحاً

حضوراً طاغياً

لا يبرح يعلن غيابك

كطعنةٍ متجددة

تُـمعِنُ في غرز الألم.”

أحببت كثيراً قصيدة “خرز من حروف” لما فيها من حركة وخيال واسع. تصف فيها التعامل مع حروف الأبجدية لتركيب الكلمات وصياغة الجمل وابتكار المعاني والصور. وشعرت أنني أراقب الكاتبة وهي تقوم بما تصفه من أفعال. وقد أُعجبت بها كثيراً لأن فيها وصفاً دقيقاً لحركة الخرز، خاصة وأنني اشتغلت لسنين عديدة في شك الخرز وتركيب العقود والأساور. وعرفت فيما بعد أن نهاد أيضاً كانت تمارس هواية شك الخرز في صغرها ومنها استوحت هذا الوصف:

“أخضُّ وعاء الأبجدية

فتتدحرج تشكيلةٌ من خرز،

تتبدَّلُ إذ أتأمَّلُ ألوانها،

أقذف بها لأَخْـبِـرَ رنَّــتها

فتعود قفزاً إليَّ ولا تصل.

أحاول ترتيبَها ثم بعثرتَـها

بحثاً عن حركةٍ ترسم وجعي،

رقصةٍ تبدِّدُ حيرتي،

شكلٍ أصبُّ فيه قصيدتي.”

عندما وصلتُ الى آخر قصيدة سمعت نفسي أقول: ييه خلص؟ ثم ضحكتُ من نفسي لأنني ما من مرة قرأتُ كتاب شعر حتى النهاية!

وفي يوم آخر، أقفلتُ بابي واستمعت إلى إلقاء نهاد لقصائدها في التسجيل على القرص المدمج المرفق بالديوان، فجاء صوتها وإلقاؤها أداءً فنياً رائعاً مع الموسيقى المرافقة المختارة بعناية ودقة بحيث تتماشى مع الشعر وكأنها وُضعت خصيصاً له. وهنا خطر لي سؤال: ترى كيف يكون وقع هذه القصائد إذا ألقاها شخص آخر بإحساس آخر وأداء مختلف؟ فأنا لاحظتُ الفرق بين الوقع الذي تركه أداء الشاعرة ووقع الموسيقى الداخلية التي شعرتُ بها لدى قراءتي لها. كما أوحت لي قصائد عدة، بما فيها من نغمية شعرية، بأنها قابلة للتلحين، فخطرت في بالي جاهدة وهبي وتصورتُ أن قصائد نهاد مع صوت جاهدة ولحنها قد تشكل عملاً فنياً متكاملاً يزيد روعة على روعة. لقد سمعتُ جاهدة وهبي مرة وهي تحكي قصتها وفقدان والدها عندما كانت صغيرة وكيف كانت حياتها مع أمها وأخواتها جهاداً شاقاً. وأعتقد أن قصيدة “الصراخ المكتوم” التي تتحدث فيها نهاد عن والدها يمكن أن تكون مشروعاً جميلاً بين نهاد وجاهدة.

في هدوء خلوتي، قرأت بنَهَم أشعار نهاد الحايك وأصغيت إليها بما يشبه الخشوع، فكانت كغذاء لذيذ أشبعَ روحي وأسمنَ فكري ومتَّع نفسي وأشعلَ خيالي.

اهربوا من ضجيج العالم وانعزلوا في هدوء مكانٍ ما، واقرأوا “اعترافات جامحة”، ودعوا نهاد الحايك تقودكم في مشوار ممتع ينطلق من عمق ذاتها ليصل إلى أعماق ذواتكم، في هبّات حنين كان منسياً، أو أشواق موجعة غير متمَّمة تَعبر منها إلى رجاء غير منظور، أو تساؤلات قد لا تأتي أجوبتها أو قد تكون هي بحد ذاتها أجوبة في صيغة أسئلة.

اترك رد