يتناول الباحث خالد غزال في كتابه الصادر حديثاً، “الإصلاح الديني في الإسلام، قضايا في الإصلاح الديني”، منشورات “بيسان”، مسألة الإصلاح الديني من مدخل الشريعة والفقه. فالواقع الراهن للمجتمعات العربية والإسلامية يعاني مأزقا يكاد يكون وجودياً، حيث أمكن تنظيمات الإسلام السياسي أن تصادر الإسلام بل وتختطفه إلى منظومتها الفكرية والدينية التي تقع خارج التاريخ، مما وضع الإسلام والمسلمين في موقع دعم الإرهاب ورفض مواكبة تطورات الحضارة والتقدم.
يحدد الكاتب أربعة مقاييس تشكل القاعدة التي تحدد اتجاهات هذا الإصلاح. المقياس الأول، يتعلق بكيفية جعل الشريعة متوافقة مع العصر الذي نعيش فيه، ومدى ملاءمتها للتطورات التي وصلت إليها البشرية وتتحكم اليوم في مجتمعاتنا. إن شريعة تتوافق أحكامها مع حاجات المسلم المعاصر تجعل التزامها أمرًا ميسورًا، بما يسهل حياة الناس وأعمالهم ويضع المسلم في قلب العصر، ناقلاً إياه من العصور الغابرة، ومنهياً احتكامه إلى شرائع تلك العصور.
المقياس الثاني يقوم على مدى توافق أحكام الشريعة مع مبادئ حقوق الإنسان، وهذه نقطة مفصلية اليوم في ملاءمة أية تشريعات لحاجات المجتمعات. إن حقوق الإنسان اليوم المتجسدة في مواثيق وقوانين قائمة على المساواة بين البشر، والاعتراف بالتعددية الدينية، وحرية الرأي والاختيار، والحقوق الكاملة للمرأة ومساواتها بالرجل، والحق في الإيمان أو عدم الإيمان، وغيرها من المبادئ، باتت مسلمات ومقاييس للتقدم في أيّ مجتمع من المجتمعات.
المقياس الثالث يتناول القراءة العقلانية للنصوص والأحكام التشريعية بمختلف مستوياتها. إن تحكيم العقل وجعله مقياساً أساسياً للحكم على هذا المبدأ أو ذاك، يطال قراءة النصوص الدينية، من القرآن والحديث، وما توارثه الفقه في هذا المجال. اعتماد العقل مقياساً من بين مقاييس، يساعد في تحرير النصوص الدينية من الأساطير والخرافات والقراءات واجتهادات رجال الدين غير المستندة إلى المنطق، التي تعبّر عن نفسها اليوم في فتاوى عشوائية، بعضها مهين ومنفر، إذا لم نقل مقززًا، يطلقها رجال دين حول هذه القضية الدنيوية أو تلك.
أما المقياس الرابع، مقياس المقاييس في الإصلاح الديني، فيتصل باعتماد القراءة التاريخية للنصوص الدينية والتشريعات أو الفقه الذي نجم عنها. إذا ميّزنا بين الثابت والمتغير في الدين، فإن الثابت ما يتصل بجوهره من قيم ومبادئ وعقائد، فيما المتغير هو تلك الأحكام التي باتت تعرف بالشريعة، والتي بنى الفقه الإسلامي نصوصه عليها. هذه الأحكام والشرائع، سواء ما ورد منها في النص المقدس أي القرآن، أو الأحاديث النبوية، أو أقوال الصحابة والفقهاء لأي مذهب انتموا، مشروطة بتاريخية صدورها. أتت هذه الأحكام والتشريعات استجابة لحاجات المسلمين في ديارهم الأولى أو في الديار التي وصلوا اليها عبر الفتوحات، ما يتعلق منها بشؤون الحياة اليومية أو بالأمور الحربية.
أسوأ ما تعرفه المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، استعادة تلك الاحكام والتشريعات وإسقاطها على العصر الراهن، من دون الأخذ في الاعتبار مكان صدورها وزمانه، والظروف والاحتياجات التي أملت صدورها. كما ان تلك الاحكام والفقه الناتج منها، محكومان بدرجة تطور تلك المجتمعات والحدود المعرفية للفقهاء والعلماء في تلك العصور، فيما شهدت العصور الحديثة قفزة في العلوم الاجتماعية والإنسانية والمناهج البحثية، ما يجعل النظر إلى هذه النصوص مختلفاً عن نظرة فقهاء العصور الغابرة.
التشابك بين الشريعة والعقيدة
قد تكون العلاقة التي تربط بين العقيدة والشريعة في الإسلام من أكثر الأمور تعقيدًا وتشابكاً، على غرار الأديان التوحيدية الأخرى. هذا التشابك أدى على امتداد التطور التاريخي إلى مفاهيم خاطئة حول الدين والتدين، وإلى استخدام العقيدة في ميدان الشريعة وتوظيف المفاهيم اللاهوتية خارج أهدافها الحقيقية، وخصوصاً في مسائل تتصل بالسياسة والإجتماع. يواجه الإصلاح الديني في هاتين المسألتين المفصليتين صعوبة كبيرة في التمييز بين ما يقع في ميدان العقيدة وثوابتها، وما يقع في ميدان الشريعة الخاضعة لعدم الثبات، بل للتطور الدائم. ولعل الجانب الإصلاحي يتحدد في كيفية تخليص العقيدة مما يلصق بها من قضايا تتصل بالشريعة، وتحريرها من موجبات هذه الأحكام، ثم التمييز القاطع بين شريعة تتصل أحكامها بالزمان والمكان والتطور الاجتماعي في كل عصر، ونفي المقدس عن أحكامها، وإخضاع النقاش فيها إلى المنطق التاريخي، بعيدًا عن إسقاط الفقهاء القدسية عليها ووضعها في مصاف العقيدة.
خلافاً لسائر الأديان، احتل الفقه المساحة الأوسع من الفكر الديني واللاهوت الإسلامي، بحيث اكتسحت مقولاته وفتاويه كل مناحي حياة الإنسان من دون استثناء، سواء ما يتصل منها بالإجتماع والتدين والحياة اليومية، ناهيك بالسياسة وكيفية قراءة النص الديني. المدهش في الفقه الإسلامي أنه، وفق منتجيه، فقه عابر للزمان والمكان على غرار العقيدة الإسلامية، وقد باتت له سلطة تفوق أحياناً سلطة النص المقدس، خصوصاً أن الفقهاء كرسوا تقاليد النظر إلى فقههم على أنه الدين الحق والصحيح. في المقابل، لم يتطور الفقه مع التطور الإجتماعي للمجتمعات الإسلامية، أو مع حاجات العصر وضروراته، بل على العكس، يبدو “التطور” الفقهي يحمل ارتدادًا إلى الخلف في هذا العصر. لذا ليس غريباً أن يتصدر إصلاح الفقه كل مسائل الإصلاح الديني في الإسلام.
قاعدة الإصلاح
إذا كان إصلاح الفقه مفتاحاً للإصلاح الديني، فإن كيفية قراءة النص الديني هي قاعدة هذا الإصلاح. لا يزال الخلاف كبيرًا حول قراءة النص. تذهب المدارس الفقهية التقليدية، في معظمها، إلى قراءة حرفية وظاهرية للنص، وتسعى إلى اسقاط مضمونها على كل زمان ومكان. تنطلق من أن النص غير قابل للاجتهاد، وتراه أبدياً. إشكالية التعاطي مع آيات قرآنية أو أحاديث، تقع في شؤون الدنيا، وكانت استجابة لواقع محدد، تطرح معضلة نقلها وإسقاطها على الواقع الراهن. لذا تأتي القراءة التاريخية للنص التي تنطلق من قراءته في زمانه ومكانه ولغة عصره. تسمح هذه القاعدة التاريخية في التمييز بين ما هو ثابت في الدين وما هو متغير. إن إنجازات العلوم الإنسانية تسمح بقراءة للنص الديني تعيد إلى الدين الإسلامي جوهره الأخلاقي والروحي والإنساني.
لماذ يشكل إصلاح المؤسسة الدينية ومعها ممارسات رجال الدين إحدى قضايا الإصلاح الديني المركزية؟ السؤال ليس عبثياً، بل هو يصدر من الموقع الذي تحتله المؤسسة ورجالها اليوم في إنتاج الفقه والفتاوى والتحكم بمفاهيم دنيوية وإلباسها ثوباً دينياً. تنبع ضرورة الإصلاح من الدور الذي لعبته ولا تزال المؤسسة الدينية في علاقتها بالسلطة السياسية، خنوعاً والتحاقاً وتسويغاً لتشريعاتها وقراراتها. ولكون المؤسسة باتت تضم جمهورًا أشبه بطبقة اجتماعية لها مصالح وأهداف في السيطرة الدينية والدنيوية، فإن الدخول في إصلاحها مسألة حاسمة لتشذيب ما علق بها من طموحات غير مشروعة ومن لعب دور ليس من مهامها.
على امتداد التاريخ الإسلامي تعرضت نظرية السلطة إلى تحولات وتغيرات، سواء على مستوى الأصول النظرية المتصلة بالنصوص الدينية، أو من خلال الممارسة العملية التي تأثرت بالنظريات السياسية. فنظرية السلطة تتصل وثيقاً بالعمل السياسي وبقيام مؤسسات سياسية، أكان اسمها دولة ومملكة وإمارة، مما يفرض تكيفاً مع طبيعة السلطة وممارستها. لذلك اختلط الديني بالسياسي، وحاول كل جانب السيطرة على الجانب الآخر، وهو أمر ليس فريدًا في المجتمعات الإسلامية، فقد عرفته أوروبا على امتداد قرون من تاريخها قبل أن يحسم لصالح السياسة على حساب الدين ومؤسساته. يختلف الحديث الخاص بالإصلاح الديني في السلطة عن سائر المسائل بسبب هذا التداخل بالذات. فهو في جانب منه إصلاح في إيديولوجيا دينية تحدد مسارات سياسية، من قبيل الطاعة والخضوع للحاكم، بما يبرر الاستبداد، وهي مسائل تحتاج فعلاً إلى إصلاح.
الى جانب هذه القضايا، يتطرق كتاب “الإصلاح الديني في الإسلام” إلى مسائل لا تقل أهمية. هناك الإصلاح الديني في ميدان فقه المرأة، سواء ما تناوله النص الديني حولها، أو ما كرسته قوانين الأحوال الشخصية من تمييز بينها وبين الرجل. وهناك الإصلاح الديني في ميدان الأحكام والحدود من قبيل آيات القتال والظروف التي نزلت فيها والتي لم تعد قائمة اليوم. إضافة إلى احكام تتناول الردة والزنا والرق والعبودية وغيرها من أحكام زمن غابر.
يختم الكاتب بفصل عن شروط نجاح الإصلاح الديني والمعوقات التي تنتصب في وجهه. تتصل المعوقات بطبيعة الأنظمة الاستبدادية القائمة التي تعتبر أن كل إصلاح ديني لا بد أن يمس سلطتها المطلقة. وهناك البنى الاجتماعية القائمة من عشائرية وقبلية وطائفية، ناهيك بالثقافة التقليدية السائدة والرافضة كل خروج من الكهف المقيمة فيه. كما أن أبرز المعوقات يتمثل في المؤسسة الدينية التي ترفض المس بسلطتها الدينية والدنيوية.
مسؤولية الحامل الاجتماعي
لن يقوم إصلاح ديني في الإسلام اذا لم ترفده حاملة من قوى إجتماعية واقتصادية وسياسية، إضافة الى تحولات لا بد منها في المؤسسة الدينية. لم يكن للإصلاح الديني في المسيحية أن ينجح لولا هذه الحاملة الاجتماعية. وفي التاريخ الإسلامي، فشلت محاولات الإصلاح الديني التي قادها مفتي الديار الإسلامية الشيخ محمد عبده، ومعه رجال دين ومدنيون حتى منتصف القرن العشرين، فشلت هذه المحاولات لأنها افتقدت هذه الحاملة بالذات، مما جعل المؤسسة الدينية والسلطات السياسية تنجح في إجهاضها، بل وتؤلب الجماهير ضد هؤلاء المصلحين.