بشريّة مُزرية
يحتاج عالمنا اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، للعمل التطوّعيّ بسبب ازدياد تفشّي روح الأنانيّة وحبّ السيطرة والتملّك، وازدراء الآخر، كما الانغلاق على الذات واستغلال الموارد الطبيعيّة بشكل مخيف؛ زِد على ذلك استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، بطريقة مذلّة ومحتقرة.
يُثبت تاريخ البشريّة أنّ الإنسان بالمطلق، يتعرّض لشتّى أنواع الحرمان والتهميش والفقر والذلّ، بالرغم من أنّنا قد أصبحنا في القرن الحادي والعشرين، وبظلّ التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ والصناعيّ وازدهار العلوم الإنسانيّة على شتّى أنواعها.
نعم، تتطلّب حالة البشريّة المُزرية، لا سيّما في البلدان التي تسعى إلى التطوّر الإنمائيّ على جميع الصُّعد، النّجدة والمساهمة في تشجيع العمل التطوّعيّ من أجل تخفيف الآلام والجروحات، وتعزيز التنميّة المُستدامة، والتدريب على مواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها وتعقيداتها؛ كما تعزيز حقوق الإنسان واحترام كرامته.
يصبّ العمل التطوّعيّ في خانة الخير العام. فهو ظاهرة إيجابيّة عن الحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ. إنّه سلوك حضاريّ يعبّر عن سموّ التعاضد والتعاون والأخوّة، ممّا يعزّز انتشار الروح الإنسانيّة النبيلة، التي خلقها الله في كيان الإنسان وضميره. العمل التطوّعيّ نشاط وحركة إنسانيّة، تتخطّى القرابة الدمويّة والحدود الجغرافيّة، والانتماء العرقيّ والدينيّ.
إسهامات متعدّدة
يساهم بسموّه، في تعزيز القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، لا سيّما روح التعاون ونشر الرفاهة والطمأنينة، ويعزّز السلام بين أفراد المجتمع والبلدان.
نعم، العمل التطوّعيّ يقدّم المساعدة والعون، والجهد والنضال، من أجل تحقيق مجتمع يسوده الخير والمساواة والعدل، كما التصدّي للظلم والشرّ، والحرب والإرهاب.
يرتكز العمل التطوّعيّ على النوايا الحسنة والإرادة الداخليّة الحرّة، ويتطلّب ذهنيّة منفتحة ومناصرة ل”قضايا” المجتمع المحقّة، وثقافة النضال المستمرّ، من أجل عالم مزدهر، حيث العناصر الإيجابيّة والبنّاءة، تُسهم في نموّه وتطوّره على جميع الصُّعد.
بالتأكيد، هناك فوائد جمّة في الانخراط بالعمل التطوّعيّ، على صعيد الفرد، كما على صعيد المجتمع والحياة اليوميّة للإنسان. وبما أنّ العمل التطوّعيّ حاجة ملحّة في مجتمع اليوم، لا بدّ من تعزيزه وتطويره، لكي يطال فئات كثيرة من شرائح المجتمع.
إنّ الإعلان والتسويق والشهادات الحيّة والخبرات الرائعة، لأهميّة العمل التطوّعيّ وسموّه، تُسهم في تعزيز ثقافة التطوّع، التي تضمحلّ شيئًا فشيئًا مع نشوء عالم يتخبّط بمختلف الأوضاع السلبيّة والخطرة على حياة الإنسان. يحتاج شباب اليوم، إلى حملات توعية وشهادات حيّة، من أجل انخراطهم بالأعمال التطوّعيّة، التي تتطلّب المجّانيّة والسخاء، والاندفاع والحبّ الكبير. تفتح ثقافة وروحانيّة التطوّع، المجال لاستخدام الوسائل الحديثة والطرق المتطوّرة لتحقيق الأهداف المرجوّة، من خلال المناصرة والمرافقة والمتابعة، والإرشاد والتوعية والتنشئة، والعمل الفكريّ واليدويّ، للحفاظ قدر المستطاع على صورة الله، التي أرادها للإنسان، كلّ إنسان.
متطلّبات لا بدّ منها
من هنا، لا بدَّ من حسن اختيار الأفراد المتطوّعين، الذين يتحلّون بالمهارات والمؤهّلات، والقدرات النفسيّة والجسديّة والعقليّة، والعمل على تحقيق وتجسيد القيم النبيلة، التي أصبح المجتمع يفتقد إليها يومًا بعد يوم، بسبب جهل الإنسان وكبريائه وفظاظة أخلاقه، وانحرافاته المثيرة للجدل، ونهمه لحبّ المال والسلطة والتسلّط.
نعم، إنّ قيمة وقدرة التواصل بين المتطوّعين وبين أفراد المجتمع – من خلال التخطيط والتنظيم- تسمح للعمل التطوّعيّ من تحقيق نجاحات ظاهرة وفاعلة، في تغيير حياة الأفراد المتعثّرة من جرّاء صعوبات الحياة، وسلبيّة الإنسان البعيدة عن مفهوم الإنسانيّة وقيمتها وأهميّتها بنظر الخالق.
يبرز العمل التطوّعيّ بعدّة أشكال وعلى مختلف الصُّعد إن كان من خلال المؤسّسات والجمعيّات والدوائر الحكوميّة وغير الحكوميّة، وبخاصة تلك التي تتعاطى الشأن العام من خلال المجتمع المدنيّ. ولكي ينجح العمل التطوّعيّ، لا بدَّ من تأمين المناخات والمعلومات، والتدريب والإشراف والمتابعة، والدعم ووسائل الراحة والأمن، والاستقرار والصحّة النفسيّة والروحيّة، من أجل الخرق في مواجهة السدود والقدرة على بناء الجسور بين أفراد المجتمع. ذكرنا سابقًا، أنّ العمل التطوّعيّ يتطلّب المجّانيّة. نعم، يبقى العمل التطوّعيّ مجّانًا حتّى لو كان له مردود معنويّ أو ماديّ. المهمّ أن ينفّذ العمل بحبّ وشفافيّة، وتفاني واندفاع. فالمجّانيّة لا يحدّها المردود الماليّ، بل أهميّة تقديم العمل بطريقة سامية ونبيلة، نابعة من الرحمة لا من الشفقة، من إحساس وشعور إنسانيّ، لا من واجب، خالي من الرأفة والعطف والمودّة.
لندعم ونساعد كلّ متطوّع من أجل القيام بمهمّته ورسالته وتنفيذها بدقّة وحرفيّة. لنثق به ونقدّر عمله ونحترم شخصه، ونشكره على سموّه.
بالتأكيد، تقوم على عاتق المتطوّع مسؤوليّات جمّة، ناتجة عن تأدية مهمّته. فالالتزام هو حالة يعيشها المتطوّع ويمارسها بكلّ دقّة، من خلال تنفيذ المبادئ والخطط والإرشادات؛ كما طلب المشورة والمساعدة.
فسحة أمل
يمكننا القول، أنّ العمل التطوّعيّ، يُسهم في المحافظة على استقرار وتطوّر المجتمع المحليّ، كما يرفع من مستوى الحماس والنشاط عند المتطوّعين، والأمل والرجاء والطمأنينة عند المستفيدين من أعمال ومشاريع وبرامج المتطوّعين. يخفّف العمل التطوّعيّ، من انتشار العدائيّة والكراهيّة والحسد بين أفراد المجتمع. وهذا يشجّع على تعزيز مفهوم العطاء والتعاون، والتعاضد والحضور الإنسانيّ في المجتمع، كما يدعم السيرة الحسنة للإنسان، والحدّ من السلوكيات الخاطئة والسلبيّة. يستفيد المتطوّع من أنظومة هذا العمل، ممّا يعطيه صورة حسنة عن شخصيّته وحالته النفسيّة.
نحن بحاجة اليوم، إلى “المعنويّات” والأمل والرجاء، من أجل مواجهة “عالمنا”. نحن بحاجة اليوم، إلى رجال ونساء يملكون مفاهيم التضحية والمثابرة. إن سموّ العمل التطوّعيّ، يعطينا بعض الأمل والقوّة والإرادة على التغلّب على معظم المحن والتجارب.
“لنعترف ونقدّر دور المتطوّعين بمساهمتهم كأوّل مستجيبين في أوقات الأزمات والأخطار. إنّهم في خدمة الإنسان. متواجدون في كلّ مكان وزمان. يساعدون على إنقاذ الأرواح، ويدعمون أولئك الذين يريدون الاستمرار في العيش بحياتهم بكرامة.
نعم، كُثُر منهم يخاطرون بحياتهم، لرعاية الأشخاص المتألّمين والمتضرّرين، من النزاع والعنف والأزمات الإنسانيّة، ولديهم الشجاعة لمواجهة العديد من المخاطر، في سبيل مساعدة الآخرين، مدفوعين بالحماس والنشاط والإرادة، في إحداث الفرق في مواجهة المعاناة الإنسانيّة”.
نحو غدٍ أفضل
يحمل المتطوّعون بالمطلق البسمة للآخر، فيعملون بهدوء وسلام، وغالبًا ما يُهمل أحدهم حياته الخاصّة ليقوم بعمله في الخدمة التطوّعيّة بشكل جدّي ومُتقن من أجل المساهمة في زرع بذور الرحمة والرأفة والغفران والحبّ؛ لا بلّ يحاول الكثير منهم إيجاد حلول ممكنة لقضايا الطرف الآخر العالقة، بهدف إسعاده.
فلنصوّب تركيزنا على هبة العطاء، فالعطاء المجّانيّ هو كسبٌ لا محال. لندع حالة المشاهدة والمراقبة لعالمنا المريض، ولننتقل إلى حالة الفعل والعمل. يكفي إعطاء بعض الإرشادات والنصائح وإملاء الأوامر للانتقال إلى التصرّف العمليّ المبنيّ على المسؤوليّة الواعية. لنعمل على تقويم الاعوجاج بدل نقده. ولننزع منّا حالة الندب والشكوى والتذمّر والاتّكال على الغير. ولتكن وعودنا أعمال مباشرة متّكلين بها على أنفسنا بدل لوم الآخر والاتّكال عليه من دون جدوى. لنترك جانبًا ذهنيّة اللامبالاة ولنغوص برحمة الخالق وتجسيدها نحو عيش الأخوّة، بارتداد القلب المعبَّر عنه بالانفتاح على الآخر والشعور بالرأفة وتحقيق التضامن لكي نعيش في مجتمع أكثر إنسانيّة. لنضمّد جراحات الإنسان ونداويها، ولنطلب من الخالق الرحمة والرأفة.
“عالمنا” بحاجة إلى هؤلاء الأبطال والمندفعين.
“عالمنا” بحاجة إلى بريق أمل، وبلسم جراح وذرّة حبّ، وفجرٍ جديد، وخريطة طريق، للوصول إلى السكينة والهدوء أيّ السلام، الذي زرعه الخالق في عالمنا، ولكن أضعناه بفلسٍ واحد من أجل فلسٍ واحد.