تعد الأكاديمية والناقدة المغربية حورية الخمليشي من أهم الباحثات العربيات المتخصصات في نقد الشعر المعاصر وفي النص العربي القديم والمناهج النقدية المعاصرة، دأبت على تزويد المكتبة العربية برؤى نقدية جادة، عبر أبحاثها المتواصلة في مختبرات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط جامعة محمد الخامس، عن طريق عمليات تنقيب واسعة في نصوص الشعر العربي، كاشفة عن أسئلة جمالية جديدة في دراسة الكتابة الشعرية، وآلياتها لتضمن لنفسها بذلك موقعا متميزًا في خارطة النقد العربيّ، عبر إصداراتها المتعددة ومقالاتها العلمية، وحضورها في الملتقيات العربية والدولية. من بين إصداراتها: اللغة والتواصل في رحاب الجامعة (2008)، ترجمة قواعد نشر وترجمة النصوص العربية لريجيس بلاشير (ترجمة) (2009)، لغة وتواصل ومنهج (2009)، ترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير (2010)، الشعر المنثور والتحديث الشعري (2010)، الكتابة والأجناس. شعرية الانفتاح في الشعر العربي الحديث (2014)، الشعر وأنسنة العالم (2018)، والشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونية (2018).
هل يمكن أن نعمل على تحديد قصيدة النثر من دون أن يتحقق فهم دقيق لجوهر الشعر؟ كيف تنظرين اليوم، إلى واقع هذه القصيدة في خارطة الشعر العربي المعاصر، ولاسيما أنك واحدة من أهم الناقدات المواكبات للنص الشعري تنظيرا ونقدا؟
لا يمكن تحديد أي جنس من الأجناس الشعرية بعيداً عن جوهر الشعر. الحداثة الشعرية أصبحت تفرض شكلاً على الشاعر. وقصيدة النثر جنسٌ شعري جاء في سياق الإبدالات النّصّية الجديدة للقصيدة العربية بفعل حركة التّحديث الشعري، والتّحديث الثقافي للمجتمع العربي بفعل الترجمة والمثاقفة. وظلّت شعرية قصيدة النثر محلّ خلاف بين العديد من الدارسين حول التّسمية والإيقاع ومستوى تجلّيات السرد في الشعر. فقصيدة النثر تجمع بين خاصّيات الشعر وخاصّيات النثر. وهذا مخالف لمفهوم الشعر عند العرب. فقصيدة النثر دخلت إلى الشعر العربي من نافذة فرنسية، بينما دخل الشعر المنثور من نافذة أميركية. ومجلة شعر اللبنانية كانت فعلاً البداية التأسيسية لقصيدة النثر التي نقلها أدونيس عن كتاب سوزان برنار. وبقيت قصيدة النثر العربية رهينة قصيدة النثر الفرنسية كما جاءت عند سوزان برنار.
وقد ظهرت قصيدة النثر في العالم العربي بعد الشعر المنثور، بينما الشعر المنثور ظهر تاريخياً بعد قصيدة النثر في الغرب. وظهرت بتسميات عديدة من بينها الشعر المنثور. مما أدى إلى التباس المصطلح بينها وبين الشعر المنثور وباقي الأجناس الشعرية التي تمتاز بنفس الخاصّيات والمواصفات. ومع ذلك وصلت قصيدة النثر إلى مستوى عالٍ من الإبداع عند يوسف الخال مثلاً ومحمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج وغيرهم من الشعراء، وابتداء من مرحلة السبعينيات مع سركون بولص وبول شاوول وعباس بيضون ورفعت سلام وسيف الرحبي وغيرهم من الشعراء. لكن معظم ما يُنشر اليوم باسم قصيدة النثر باستثناء بعض الشعراء لا يحمل شيئاً من صفة الشعرية. وبما أن قصيدة النثر تجاوزت المفهوم العروضي فهي الجنس الشعري الأكثر استسهالاً عند شعراء العصر الرّاهن. الكثير من شعراء قصيدة النثر اليوم يجهلون مقوّمات الشعر، ولغتهم ضعيفة. وهو من بين الأسباب التي أفقدت الشعر الكثير من جمهوره العاشقين لجمالية القصيدة. فتوفّر لدينا العديد من الأعمال الفاقدة لجوهر الشعر من موسيقى وصور شعرية وخيال، وهو ما بقي الشعر الحرّ محتفظاً به.
لا تعتقدين أن قصيدة النثر أربكت تصورات النقد الأكاديمي أم أنها عملت على توسيعه؟
جاءت قصيدة النثر بمثابة أفق جديد في القصيدة الحديثة وهي تجربة أعادتنا إلى طرح سؤال الشعر في زمننا. لكن مصطلح قصيدة النثر العربية يشوبه الكثير من الغموض والالتباس. فقصيدة النثر لم تفلح لحدّ الآن في أن تكون جنساً شعرياً مستقلاً. ومع ذلك فلقصيدة النثر شعراؤها المؤهلون سواء في المشرق أو في المغرب العربي. إلا أن الكثير من النّماذج التي تُنشر اليوم باسم قصيدة النثر، كما أشرت، أعمال لا تمتلك صفة الإبداع الحقيقي.
وبالرغم من أنّ العديد من المهرجانات والملتقيات تُقام حول قصيدة النثر لكنّها تفتقر إلى الدراسات النقدية الجادّة. والعديد من الدراسات التي تُجمَع في كتب لا تتحرّى الدّقّة العلمية، وتعتمد على نماذج تفتقر إلى جوهر الشعر وإلى خاصّيات قصيدة النثر. فهناك شعراء ينشرون أكثر مما يكتبون وخاصّة فئة الشباب. فتهافت الشعراء على كتابة شكل شعري جديد من أجل تحديث قصائدهم وتجديدها فكرة لا تلائم الإبداع، لأن الشعر أولاً وقبل كل شيء خلقٌ وموهبة وابتكار. ولا تمكن قراءة النص الشعري إلا حيث يوجد إبداعٌ حقيقي.
تربك حورية الخمليشي في كتابها “الشعر المنثور والتحديث الشعري” الكثير من التصورات النقدية حول ما يعرف بالنثر الشعري والشعر المنثور؛ حيث تقدمين تحديدات جديدة. هل في نظرك أن التجربة الرومانسية ما تزال بحاجة ماسة إلى حفريات نقدية؟
الأجناس الشعرية وليدة حركة التحديث الشعري في العالم العربي. وكلّما اتّصل العرب بالشعر الأوروبي، بحثوا عن وسائط جديدة تمكّنهم من الخروج بالقصيدة العربية إلى أشكال فنّية حديثة. أظنّ أن التجربة الرومانسية تبقى دائماً مجالاً مفتوحاً للبحث العلمي. فآفاق البحث مفتوحة فيما حملته مسألة الحداثة والتّحديث الشعري من جديد وخاصّة في مجال البحث المصطلحي للجنس الشعري. فالأجناس الشعرية الأوروبية لها تعريفات محددة في الأدب الفرنسي والأدب الإنكليزي. وهذا ما لا نجده في الشعر العربي. وقد أسفر هذا الخلط المصطلحي عن تصوّرات غير محدّدة للشعر المنثور وكذلك لقصيدة النثر العربية.
في كتاب الشعر المنثور والتحديث الشعري حاولتُ ضبط العديد من المفاهيم والمصطلحات التي تحتاج إلى مراجعة، لأن الفهم الخاطئ للمصطلح يؤدي إلى الفهم الخاطئ لمعناه بسبب عدم تحري الدقّة في الترجمة. ونجد هذا الخلط المصطلحي في المجلات الشعرية والأدبية التي واكبت التجربة الرومانسية. ومنها التباس مصطلح الشعر المنثور الذي جاء بتسميات عديدة منها مصطلح قصيدة النثر والشعر الحر وغيرها. فالوضع الاصطلاحي الشعري في أدبنا العربي لا يخضع لمنهجية محكمة. فالعديد من الأجناس الشعرية تحمل مواصفات الشعر المنثور كما ورد عند الريحاني. فقد أشار الريحاني في كتابه “هتاف الأودية” إلى أنه يكتب الشعر المنثور على طريقة الشاعر الإنكليزي وولت وايتمان، بينما كتب وايتمان الشعر الحر وكان من رواده الأوائل. وما يزيد من صعوبة البحث هو أن الشعر المنثور لا يوجد له إطار نظري يحدّد مفهومه، وفيه تلازمٌ بين المنظوم والمنثور، في حين أن هناك حدوداً بين الشعر والنثر. ما يجعل من الشعر المنثور مصطلحاُ إشكالياً.
تطرحين مفاهيم جديدة في نقد الشعر العربي في كتابك الكتابة والأجناس شعريّة الانفتاح في الشعر العربي الحديث. إلى أيّ مدى وجدت قبولًا لهذا العمل الجديد، وكيف تقيّمين تجربتك في هذا الموضوع؟
كتاب “الكتابة والأجناس. شعرية الانفتاح في الشعر العربي الحديث” من القضايا المهمّة في تناول التنظير والنقد في الشعر الحديث والمعاصر. وهي مواضيع تحتاج إلى الكثير من الاشتغال النقدي. وقد لقيَ الكتاب اهتماماً في أوساط الباحثين والمهتمّين. فأثار الكثير من النقاش حول الأجناس الشعرية وجنس الكتابة. وكذلك إشكالية التلقي وأهمّية الدراسة تكمن في تتبّع التّسلسل التاريخي لتطوّر القصيدة العربية بداية من التصوّر العربي القديم للأغراض الشعرية عند القدماء كابن سلام الجمحي وابن رشيق القيرواني وحازم القرطاجني إلى اختفاء الأغراض الشعرية بظهور الأجناس الشعرية، فيما عرفته الحركة الشعرية التحديثية والحركة الرومانسية العربية من تحديث وتحولات الكتابة الشعرية العربية لما عرفته أعمال الرومانسيين من تجاوز لمؤسسات التقليد مع جماعة أبولو والديوان والمهجر الأميركي وجماعة مجلة شعر اللبنانية التي كانت البداية الأولى لظهور الكتابة.
فقد كان سعي الشعراء إلى جنس الكتابة نوع من تلمّس مواطن الاختلاف والمغايرة من خلال تجارب فردية لشعراء عملوا على التأسيس لكتابة جديدة في الشعر العربي الحديث. وكان أدونيس هو الأسبق من الناحية التاريخية بالدعوة إلى تأسيس كتابة جديدة في مرحلة السبعينيات. وهو أول من استعمل مصطلح الكتابة الجديدة. وكانت هناك دعوة أخرى لمشروع الكتابة في المغرب الأقصى لمحمد بنيس في بداية الثمانينيات. وهو أوّل من سيطرح مفهوم بيان الكتابة في المغرب، وفيه يرسم حدود الكتابة التي كان أدونيس قد دعا إلى ترسيخ ملامحها الجديدة، بالإضافة إلى بيان قاسم حداد وأمين صالح. وهذه البيانات بيانات تّأسيسية للكتابة الشعرية العربية من منظور مغاير. وقد صدر كتاب البيانات عن مجلة كلمات البحرينية عام 1993. ويضمّ بيان الحداثة لأدونيس وبيان الكتابة لمحمد بنيس وبيان موت الكورس لقاسم حداد وأمين صالح.
إن ما يميّز شعر الحداثة هو انفتاح القصيدة على الفنون وشعريات العالم في علاقتها بالتشكيل والموسيقى والمسرح والسينوغرافيا والموسيقى وغيرها. وقد فرض هذا شروطاً جديدة للتّلقّي، إذ لم تعد القصيدة تقتصر على السّماع والإنشاد بعد أن أصبح الشعر في قلب الفنون. وهكذا يمكن أن نقول إن لهذه الدراسة دوراً مهمّاً من منظور التلقي. قراءة الشعر بطريقة مغايرة مسايرة لهذا التطوّر والانفتاح الشعري.
ليس معنى هذا الكلام أنّنا يمكن أن نسلّط القصيدة في لوحة أو شاشة السينما أو خشبة المسرح، فلكلّ فنّ استقلاليته وجماليته، وما يجمع بينهما هو هذا الحوار والتواشج الجميل بين الشعر والفنّ. السفر مع القصيدة مُغرٍ، فالقصيدة تأخذكَ إلى آفاق أوسع وأشمل.
لديّ دراسة لم تكتمل بعد في دراسة الشعر من منظور التلقي، حاولتُ الاهتمام بها خاصة بالشاعرات والشعراء الشباب الذين اتّسمت أعمالهم بالانفتاح، وهو عمل لم يكتمل بعد لعدم اكتمال المادّة البحثية المتعلّقة بالجانب الفنّي. فهذا النوع من الدراسات يتطلّب وقفة وتأملاً وجهداً. في هذا السياق دعوتُ مرّة الشاعر ياسين عدنان في لقاء مفتوح مع طلبة الماستر بكلية الآداب بالرباط. وكان الموضوع “التمثيل البصري في القصيدة المعاصرة”، بحيث لمستُ التجاوب الكبير مع قصيدة العبور والحوار الشعري الفني لياسين عدنان في انفتاحها على التشكيل والمسرح والموسيقى وغيرها من أنماط الفنون. كان اللقاء ناجحاً بامتياز. فمع كل ما يمرّ به الشعر من أزمة، هناك اهتمام كبير من طرف الشباب طلبة وباحثين ومهتمّين.
بات من المؤكد أن هجرة الشعراء إلى الرواية ليست مجرد رغبة نحو تجريب أشكال إبداعية جديدة، بل هو تحول في طبيعة القيمي الذي يجعل الأدب خاضعًا لاقتصاديات السوق والجوائز. هل يعني هذا أن انحصار الشعر مرتبط بالهجمات الإعلامية المتتالية التي حولته إلى جنس غير مرغوب فيه؟ أم أن الأمر يتعلق بمنطق تجاري ضيق لدور النشر التي تروج أي شيء يباع حتى وإن لم يقدم أي جديد يذكر؟
تراجُع قراءة الشعر مسألة عالمية في عصر سلطة الصورة والتطوّر التكنولوجي ومجتمع الاستهلاك والعولمة. لم يكن أبداً الشعر جنساً غير مرغوب فيه، حتى في أشدّ الأزمات والحروب التي عرفها العالم، وجّه الشعراء رسائل محبّة وسلام إلى العالم. كان زكي مبارك يرى أن الأدب لم يرتق إلا بفضل الفوضى السياسية والاجتماعية. وكان يتساءل ما حاجة الناس إلى الأدب حين يعيشون في نظام وأمان.
لا أحب استعمال كلمة خفوت الشعر. فالشعر في نظري دائماً متوهّج. وإنما هناك تراجع لقراءة الشعر، وهذا ناتج عن أسباب عديدة منها اقتصاديات السوق وإغراءات الجوائز التي أدّت فعلاً إلى هجرة العديد من الشعراء إلى الرواية. وهذا له أيضاً تأثير على الرواية. فالرواية التجارية اكتسحت المكتبات على حساب الرواية الإبداعية. إن الجوائز مهمّة من حيث الارتقاء وتنشيط العمل الأدبي. لكن لا يجب أن تكون سبباً في توجيه الأدب إلى الجانب التجاري.
ليس هناك تقييم لمعظم الدواوين الشعرية التي تُنشر اليوم. هناك تدنٍّ في الإصدارات الشعرية. وأستغرب كيف تنشر بعض دور النشر بعض الأعمال الفاقدة لجوهر الشعر. فعلى دور النشر رفض مثل هذه الأعمال حتى ولو أراد الكاتب أن ينشرها على نفقته الخاصة حفاظاً على أدبية الأدب.
وهناك أيضاً غياب الوعي النقدي في الرّؤية إلى القصيدة المعاصرة وتقلّص المعرفة بالشعر ونقده، وعدم مسايرة النقد لتجربة التحوّل والانفتاح التي تمر بها القصيدة المعاصرة.
الإعلام له سلبياته وإيجابياته، فبقدر ما وسّع من دائرة قراءة الشعر بقدر ما روّج لأشعار لا تمتّ للشعر بصلة. فمعظم ما تنشره وسائل الإعلام من أشعار دون ضوابط. قبل ذلك كانت الصحافة المكتوبة منبراً للأدباء والمفكّرين لتأثيرها الكبير في الحياة الأدبية منذ عصر النّهضة الأدبية. وكانت تُسند مهمّة تحرير الصفحات الثقافية للكتّاب والأدباء الذين كان لهم حرص معرفي في كل ما يُنشر. أما اليوم فالعديد من الشعراء برزت أسماؤهم مع اتّساع دائرة النشر الإلكتروني والثورة الإعلامية، أي صنعتهم هيمنة الثقافة الرّقمية. ومعظمهم شعراء مواقع التّواصل الاجتماعي إن صحّ هذا التعبير، وفي هذا إساءة للشعر وللغتنا العربية.
تقولين في مقدّمة كتابك “الشّعر وأنسنة العالم” الّذي صدر حديثًا عن دار ضفاف، “نحن نعيش في زمن تسوده قيم لاشعريّة. زمن انهيار القيم الإنسانيةّ”. كما تؤمنين بقدرة الشّعر على أنسنة العالم، وفي المقابل نلاحظ انهيارًا واستسهالًا للقصيدة. أين نقد الشعر الحديث من كلّ ذلك في العالم العربي؟
كتاب الشعر وأنسنة العالم يعالج فكرة المقاومة الثقافية. فالشعر يقاوم عبر تاريخه الطويل من أجل الحرّية، وحرية الشعر لا تنتهي، لأن الشعر هو نشيد الإنسانية الذي أرّخ لتاريخ ميلادها.
والإنسانية كما يقدّمها الكتاب مذهب شعري فني جمالي. ولذلك فالتّمسّك بالشعر تمسّكٌ بإنسانية الإنسان. والوفاء للقصيدة وفاءٌ للعمق الإنساني الكامن فينا. فالشعر رؤيا وكشف عن المبهم والغامض في أسرار الحياة. والشاعر نبيّ وكاهن ورائي يرى ما لا يُرى. وجرح الشعر في هذا الزمن الذي تسوده قيّم لاشعرية نابعٌ من الجرح الذي تعانيه الإنسانية.
يحتاج الشعر إلى قراءة جديدة تستوعب العمق الجمالي والإنساني للقصيدة. فالشعر مُنطلَق لقراءة كل مظاهر الحياة الإنسانية. قراءة من داخل الشعر لنكتشف ذواتنا ونكتشف العالم. فالشعر يفتح آفاقاً مجهولة للمتلقّي في علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالمجتمع الإنساني.
إن الشعر يتألم لمصير الإنسانية ولكنه لا يستسلم، ولا يموت لأن في جسمه ألوهية تؤهله للخلود. لي إيمانٌ عميقٌ بقدرة الشعر على أنسنة العالم. فالحب والإنسانية وعشق الجمال دين الشعراء. وقد بحثتُ في كل المراحل التاريخية التي تشبه المراحل التي يمرّ بها الشعر في زمننا، فوجدتُ أن رسائل الشعراء في زمن الحروب والأزمات أكثر تأثيراً من رسائل الزعماء والقادة.
والتّصوّف سرّ المحبة الإنسانية. وهذا ما نجده في الشعر الصوفي. ففي مثنويات منطق الطير لفريد الدين العطار إعلاء روحي لمقام الإنسان ونشيد أزلي للحب السامي. وفي مثنوي جلال الدين الرومي عشقٌ إلهي ونظرة عميقة للجانب الروحي للإنسان في معرفة حقائق الكون. فالخطاب الشعري الصوفي عند شعراء الحداثة جاء في مقاومة الخطاب الديني الذي يرتكز على الأصولية ويبتعد عن الاجتهاد. وقد اتّخذ العديد من الشعراء الشخصيات الصوفية قناعاً ليتحدثوا على لسانهم كصلاح عبد الصبور مثلاً الذي اتّخذ الحلاج قناعاً ورمزاً للحرية في “مأساة الحلاج”.
إلى أيّ مدى نحتاج إلى وعي نقديّ لتطوير حركة الثقافة الإنسانية في ظلّ هذه الأزمة؟
ما أحوجنا اليوم إلى وعي نقدي يعلي من الثقافة الإنسانية في ظل ما نعيشه من أزمات على كل المستويات. والنقد تنوير وتقويم وتصحيح للعديد من المفاهيم والمغالطات، بعيداً عن الأصوليات والعصبيات والمحاباة. فحينما نصدق مع ضمائرنا فهذا مكسب للإنسانية. وزمننا يحتاج إلى تقديم مشاريع نقدية جادة وتنويرية تعزّز سيادة الفكر الحر وتبتعد عن الانغلاق الفكري. كما نحتاج إلى مجتمع قارئ. فالجامعة وحدها لا تصنع الثقافة، لأن الثقافة أسلوب حياة وسلوك، فهي استمرارية للفكر الإنساني، وتنمو مع النّموّ الحضاري للمجتمعات الإنسانية المختلفة، والتوسيع في عالمنا العربي من دائرة الترجمة مسألة مهمّة للتقارب بين الشعوب والثقافات المختلفة.
هل يمكننا أن نتحدث اليوم عن شعر جديد في العالم العربي بعد أن تغيرت مواقع الحواس؟ ما رأيك في القصيدة التفاعلية؟
القصيدة التفاعلية وليدة التطوّر التكنولوجي الحديث. في الأصل هي ممارسة غربية ناتجة عن علاقة التفاعل بين الإبداع والتكنولوجيا وبحث عن طريقة جديدة في طريقة تقديم النصّ الشعري. لكن هل لدينا قصيدة تفاعلية رقمية بالمعنى الحقيقي للكلمة من دون التأثير على جماليات القصيدة ومواصفاتها وخاصّياتها، وهذا موضوع يحتاج وقفة طويلة.
شخصياً أفضّل الاشتغال على أعمال شعرية ورقية. وأتّبع مسار القصيدة في انفتاحها على مختلف الفنون استناداً إلى معطيات علم الجمال. فكل نص شعري محمول بفلسفة فن جمالية ومرجعيات بصرية. كما أن لكل فن استقلاليته وجماليته. لكن ما يعرقل التواصل مع الفنانين هو أن معظم الفنانين مثلاً على مستوى الفن التشكيلي حرفيون.
المشهد الشعري العربي عرف تجارب شعرية جديدة مختلفة. هذا حينما نتحدث عن شعراء حقيقيين ونستثني الشعراء الذين صنعتهم شهرة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها كما سبقت الإشارة، وذلك في ظل هيمنة الثقافة الدينية والإعلام وسلطة الصورة. فهؤلاء الشعراء جزء من الأزمة التي يعرفها الشعر الحديث. كما أن معظم الشعراء ثقافتهم سطحية لا تعتمد على الكتاب، بل على وسائل التواصل الاجتماعي، وجمهورهم من هذه الوسائط. وهو سبب تراجع المعرفة الشعرية والأدبية عموماً. فمعظم ما يُنشر اليوم لا أجد فيه أي عمق إبداعي. فأن تكون شاعراً يعني أن تكون مسؤولاً وأن تكون مثقّفاً. والمعرفة تبقى أساس الإبداع الذي هو أساس التنمية الإنسانية.
يلاحظ المتتبع لتجربتك النقدية أنك تشتغلين بصمت بعيدًا عن الضوء. هل الناقد يجب عليه أن يتوارى، ويترك المقاربات هي التي تتحدث؟
صداقة الكتاب منحتني فرصة التّعرّف على أصدقاء من أزمنة بعيدة وعصور وأمكنة مختلفة أستأنس بكتاباتهم كابن عربي والمتنبي وجلال الدين الرومي وأمين الريحاني والسياب وبودلير وميشونيك وغيرهم. أحياناً أجد نفسي أحكي لهم عن بؤسنا الثقافي. أما هواجسي وأفكاري فأتقاسمها مع صديقاتي وأصدقائي من الذين يشغلهم الهمّ الثقافي في عالم اليوم.
أكتب كل ما أؤمن به، وتأخذ مني الدراسات جهداً ووقتاً طويلاً. فعلاً أترك المقاربات تتحدث عن نفسها، بعيداً عن الأضواء التي تحكمها العلاقات الشخصية ولوبيات الثقافة إن صحّ هذا التعبير. والثقافة حينما تحكمها مثل هذه العلاقات تؤدي بنا إلى التخلف الثقافي على مختلف الأصعدة.
ولديّ ثقة كبيرة في الشباب من الباحثين المهتمين والشعراء الحقيقيين، فهم مستقبل النقد والشعر العربي، وأومن بقدرتهم على الاستمرار. فالزمن المعرفي لا ينضب. والتجربة الشعرية العربية تجربة كونية.
****
(*) موقع ضفة ثالثة- 22 يناير 2018 .