ايلي مارون خليل… مُرتاحٌ في “عَشيق أمّي”

المجتمع مَدُّ قوارير المَرمَر، المستورةِ طوراً بأنفاس الخير، وطوراً بظَمأ مَن يهوَون تدميرَ الآخرين. وهو جوهرةٌ نقيّة يمكنُ أن يحجبَها رمادُ المكائد، فتُصبح رَميماً. أمّا إعادةُ البِناء، أو الدّعوة الى تَرميمِ وزنات الأَصالة، فلا يَنشُرُها إلاّ النَّابِهون الذين على سِنان أقلامهم كان الدَلُّ الى السَّقط، والى الإحتذاء برغبة الصَّالِحين.  

ايلي خليل المُلتهِبُ الحُضور في رواية “عَشيق أمّي”، مشتاقٌ الى إنعاش القِيَم من ضَباباتٍ أَتَت على ذاكرتها، فلُطَخُ النّسيان استطابها المجتمع فأصبح وجهُها هو المُبارَك لديه. والقِيَمُ نَشَّفَ وريدَها جَورُ الزَّمن، وسفكَ نُبلَها على نَصل عُقوقه. من هنا، لم يكن ايلي من هذه التَّركة في سُكوت، بل نظَّمَ نشاطَه، بوَصلاتٍ لمّا تزلْ جريئة، لتصحيح القراءات الخاطئة المُتوتِّرة والسَّمعِ الخاطئ المُنفعِل. لذلك، لم يكن بين ايلي والمجتمع رَبطُ نِزاع بل إثارة نزاع، فالوَعيُ عنده لا يستطيعُ أن يقومَ بمهمَّته كمُتَقَصٍّ للحقيقة ومُعلِنٍ لِنَجواها، وكمُحَلِّلٍ مُقتدِرٍ لحيثيّاتها، إن كان مُشوَّشاً، وبالتالي لا يصلُ في هذا المَجال الى الشّعور بالشَّبَع التام.   

ايلي خليل الضنينُ على إيفاء موهبته مآثرَها، هو معها لهفةُ العاشق الى معشوقه، وحُلولُ المُهجةِ بالمُهجة. لقد عمَّدته الروايةُ بَنّاءَ أركانها، وجوابَ ندائها للإرتقاء، وحبَّبت إليه جاهَها فغَدَت معه مُتعةً لم يعكّرها قَيدُ نظام. لقد سلكَ سبيلَها منذ يَقظتِه، وجاهَرَ باستيطانِه أرضَها، وكان من دواعي ذُيوعِها إثباتُ أنّها معه صِنوُ الشِّعر، فالخِلافةُ في كتاباته لم يحتكرها واحدُهما. لم يكن مُرادُ ايلي في “عشيق أمّي”، إيثارَ ما مُنينا به من آفات وموبِقات على المستويات الإنسانية عموماً، بل أيضاً التعجُّبَ من هذا الوارِث الذي لم يَدلِف الى المُداواة لأنّه لم يَعِ أنّه خَليقٌ بِها. فمَن كان الكلُّ له، والإسمُ والجلالةُ عنده، لِمَ لا يُهدِّدُ بالمَسير الى المواجهة ؟ وفي اعتدالٍ مَشهودٍ من الكاتِب، نراهُ يرضى أن يُحارِبَ هذا ال”مَن” مرَّةً، ويُسالِمَ مَرَّة.  

    

لم يَحدث في أسلوبية ايلي لُجوءٌ الى الدَّوران حول المعاني، منذ السَّيرورة البدائية للرواية، فالمُباشَرة كانت النَّمطَ الحارس إن في الشّحنة الشّعورية أو في الفكرة التَّصويرية أو الحوارات، بالرَّغم من مكافأته بعض الحالات بنظام الرُّموز، لذا، لم يَكُن ايلي لِيرعى ظَرفَ الصناعة في المضمون، أو يُثنِيَ بالتَّحميد عهدَ اللامألوف. من هنا، كان أسلوب الرواية على طَلاقةٍ، خالياً في جُملته من الزُّخرف والتَّزويق. كذلك، يَظهرُ مِمّا أُطلِعنا عليه من تراكيب، أنّ مسألة الإيجاز والإِطناب في السَّرد والفصول، كانت تجري على مُقتضى الحال ووفقاً لوُجوب الكلام. وهذا يعني أنّ الرواية، حسبَ أدَب صاحبِها ووصيَّتِه، سَعَت الى وَضع الألفاظ على قَدر المَكتوب إليهم، بلا حَشوٍ أو نَمَطِ تَطويل غيرِ محمود، مُلتزِمةً بأنّ لِكلِّ مقامٍ مَقال. ومع ذلك، فاجأَنا ايلي في مواضعَ شيِّقة، بأَنْ جمعَ الكثيرَ مِمّا يريد في القليل مِمّا يقول، وهذه بلاغةُ المَوهوبين. أمّا التَّنويع في صِيَغ الكلام، فكان كاختلاف مَذاقات الطُّعوم أمام شهواتِ الآكلين، فما مَرَّ من سَردٍ وحوارٍ وتحليلٍ سيكولوجيّ ونَقد، قد صبغَ الأسلوبَ بألوان الجَمال والخَصبِ واليُسر، فليس من نَقصٍ في بديعيّته.

لقد تضمَّنت ” عشيق أمّي ” بين دفَّتَيها فلسفةً أخلاقية جمعَت بين المعنى والرّوح، لكنّ ايلي لم يذهب فيها الى الأَنا المثالي، حيث الدّفءُ المُطلَق الذي يُضعِف الرَّغائبَ الأخرى. فالتوتّرات الإضطرابيّة سبَّبت لشخصيّاته الأَرق، مُحفَّزةً بمُنبّهاتٍ شتّى، كَوعيِ الهموم والإنتظار المُثقَل بأحاسيسَ سارَّة أو مؤلِمة، وكغضبٍ مَكظوم و أحلامٍ مَكبوتة. والواضحُ أنّ تداعي التّجربة في الخوف والتَّدنيس، قد أدّى الى إضعاف الأنا، ولو مُؤقَّتاً، وهذا من شأنه أن يجعل الشخصيَّة – البَطَل أقلَّ مقدرةً في الدّفاع عن نفسها، فتَلجأ، نفسيّاً، الى الهروب بِقصد التخلّص من واقعٍ قليل الإرتياح. ويبقى السؤال: أهيَ أنا الأبطال، تلك الأَنا التي يرشحُ لونُها بما أَنفَذَت من حُكْم، أم هي ظِلالُ أنا الكاتب بما استودِعَت من صِدق ؟

“عشيق أمّي” ليست ” تفسيرَ أحلامٍ ” ذا طابع صبيانيّ، عارياً من كلّ معنى، بحيث نجدُ أثرَه مُبهَماً أو لَغزِياً، فكلُّ عاملٍ ظاهرٍ في الرواية يَختصرُ مضموناً كامِناً داخلَها، ويَخضعُ لأفكارٍ كثيرةٍ مَحشودة. لقد ترك ايلي لشخصيّاته التي تُناصِرُ وتُعادي، أن تَينَعَ بمعزلٍ عن تَمَلُّقٍ لأهوائها ومُلاطفةٍ لأذواقها، لكنّه أظهرَ نُفوذَه سِرّاً في إدارتها عن بُعد، فحفظَ لنفسه الحقَّ بالمُلك. وبالرَّغم من تلك النَّخوة، فقد أتت صبغةُ الواقعيّة لِتجعلَ الشخصيّاتِ تتحكَّمُ تَحَكُّمَ الآمِر لا المأمور، ما أضفَى على السِّياق نزعةَ تقرير الحقائق بلا تنميقِ إنشاء.   

لم ينقبض ايلي عن قصد المواقف، فصَحا نزيفُه إليها في مُندرجات الرواية، والمواقفُ انفراج وصَرفٌ لِمَزاج. لذا، تَعاهدَ ايلي والموقف وتَواثَقا وتَحالَفا، وكأنّ الواحدَ منهما بَذَل المودَّةَ والإخلاصَ للآخر، وعانقا الخَطبَ معاً. وقد بدَا من المواقف جودةُ فِكر الكاتِب وصحّةُ نِيَّته، إن في رأيه بالزَّواج أو العلاقاتِ بين الناس والطَّبقات أو صِدقيّةِ النَّقد في تصنيف الأدباء أو مفهوم الإيمان. والمُلفِت أنّ ايلي لم يُعلِن رأياً لِيُكافِح وإن كان قاسياً، وبهذا لم يكن حَطَبُهُ رَطباً، إنّما كانت أَصالةُ رأيه ورجاحةُ فِكره ما نَسَّق مواقفه في باب الرَّسائل الموجِبة للمُناصَحَة، من دون أن يَتَوَقَّعَ اللُّطفَ به في الجواب : ” كلامُكَ مَسموع “.  

ايلي خليل ناصعُ البَيان جَيِّدُه، وذو الطَّرائق السّديدة فيه، خلعَ من قلبه كلامَه وأَجلسَه مَجلسَه فجَرى على الواجب، وأَلقى إليه زمامَ الحركة والشَّكيمة، فما فَوَّت استعداداً لخدمةِ الكتابة الرَّاقية. من هنا، رَقَّت على مَشافِر حِبرِه لغةُ القَصَص، فجاءت دقيقةَ المعاني صافيةَ التَّعبير، ولم تكن رَكيكةً فتَحتَجّ بما كان مألوفاً من أدبٍ إستهلاكيّ، هذا الذي أصبحَ وَلِيَّ نِعمةِ الكاتِبين في زمنِ القَحط والعَورات. إنّ رواية ايلي لم تُكتَب بهذا، لأنّه غَدْر، وبالتالي، فهي، في ذخائرها، نَثرٌ فنيٌّ راقٍ، ثابتٌ على اليَمين، لم تَفُح منه خيانةٌ مُنكَرة، فما عرفَ من الغَضاضةِ وَجهاً. لقد استأثرت الطَّبعية بالحَظوة في الرواية، من دون مُنافِس، لذلك لم يذهب بهاؤُها

في مَوسِمِ الإنشاءِ العاقِر، حيثُ العاقُ مَتبوع، واتِّباعُ الجَمالِ في زُهد، تُعزَلُ جواهرُ الكلام ويتِمُّ زَجرُ الفصاحة والبلاغة. ولكن، للأمانةِ مُؤَدّىً وحُسنُ عهد، وبذا، لا احترازٌ في ما يُرى داخِلَ “عشيق أمّي” من صَلاحِ المُرسِل، وعمقِ البَلاغ، وارتفاع المُراقبة للعَلَن، والأسلوبِ الأَشرفِ نَسَباً في التَّدبيج، ما يجعلُ صاحبَ الرواية من أَملاكِ الروائيّين في سِنِيِّنا، وربّما في الأَواتي كذلك.    

اترك رد