تحقيق: إيمان سلامه
صناعة الخيزران حرفة دخلت لبنان من بريطانيا عندما استعمرت البلاد الأسيوية، خصوصاً تلك التي كان ينبت فيها قصب الخيزران، فأدخلته في صناعاتها واستعملته في البناء كسلالم متنقلة، ومن ثم كقطع وأجزاء صغيرة لسد فتحات الجدران الإسمنتية، عوضاً عن الخرضوات (المسامير والبراغي وما الى ذلك) وقد أثبتت قوتها ومتانتها لعقود مديدة.
انتقلت هذه الصناعة إلى غيرها من صنع الكراسي وأدوات أخرى أدخلتها إلى فلسطين، ومنها أخذها السوريون واللبنانيون ودول الجوار، كما جرت العادة على تسميتها آنذاك، لاستعمارها من قبل الدولتين الفرنسية والبريطانية التي أدخلت في تلك الحقبة كل ما من شأنه خدمة مصالحها الخاصة دون سواها.
الحرفي اللبناني طور هذه الحرفة بإدخال أشكال وأحجام مختلفة، لينافس نظراءه السوريين والفلسطينيين، ويبدع بأنامله السحرية لتغدو قصبة الخيزران بين يديه أشكالا حلزونية، وأخرى كعسف النخيل، ومهواة تحملها المرأة في يدها، وكانت جزءاً من مقعد للجلوس يعلوه شكل المروحة الهوائية تلك.
ولطالما كان لبنان رائداً في الإتقان والاحتراف، ابن مدينة صيدا سلمان الرواس هاوي هذه الحرفة منذ الصغر، رغم حبه لتصميم الآلات الزراعية وولعه فيها، وقد أخذه شغفه إلى احتراف صناعة الخيزران وابتداع أشكال وأحجام.
مسيرة طويلة
ابن السبعين عاماً، لكن ملامح وجهه تبدو فيها علامات الاستمرار وحب التجدد في كل ما يفعل. بدأ بهذه الحرفة في الخامسة والثلاثين من عمره في محل ومستودع يضمان تصاميمه ومقتنياته الحرفية، وهما الشاهدان طوال أربعين عاماً على ما أبدعت يداه من حرفيات خيزرانية، وابتكر طرقاً فريدة في هيكلية الكراسي، وكان يرمم قطع خيزران قديمة ويعيد الحياة إليها.
عمل الرواس في بداية حياته في صناعة المحراث الزراعي (التراكتور) ولكن لم ينسه ذلك تلك الحرفة التي قال إنها صناعة، محبوها كثر، لذلك يتوافدون إليه من الجنوب، النبطية، صور، الجبل، بيروت وطرابلس…
يتميّز عمله بالفرادة والجودة والمتانة… وكلها عناصر تضفي قيمة عالية إلى العمل، ليس مادياً إنما تراثياً واجتماعياً، “في حرفتنا التميز مطلوب، ومادة الخيزران طيعة لصنع أشكال فريدة تتخذ صوراً جميلة تعطي لزائرنا التراث والفن والذوق والراحة في آن”، حسب تعبيره.
يشير الرواس إلى أن الشكل أو الموديل يخضع لأسس، منها إمكانية تغيير التصميم في لحظاته الأخيرة لإنهائه وتعديله، ما يعني إبراز الفرادة في ما نصنع، بالإضافة إلى مواكبة متطلبات التطور العصرية وتصميم ما هو خارج المألوف والعادي”.
يضيف: “كل عمل، مهما كان حجمه أو صعوبة صنعه، يستغرق تصميمه وتصنيعه مدة أسبوع على الأقل، لأننا نتبع الطريقة اليدوية في صناعتنا. أما المواد التي نستعملها فهي عبارة عن الخام أو ما يسمى القش المشبك (المخرم ) في صنع أطقم الجلوس والكراسي العربية وأشكالها وأحجام مختلفة، فكل عمل خاضع لميزانية الزائر وقدرته، وهذا الامر لا يفقد العمل أهميته وجودة صناعته وصلابته بالنسبة إلينا، لأن الزبون يبدي رأيه من ناحية زخرفة الشكل، من دون التدخل في جوهر التصميم وميزته، يعني إذا أراد زائرنا إضفاء زيادات على العمل بالطبع، سيؤدي إلى زيادة كلفته، لذلك في مستودعنا القديم والجديد، كل حسب ذوقه ورأيه وطبعه، من دون المساس بجمالية حرفتنا وصناعاتها”.
يتابع: “على سبيل المثال، الكرسي القديم الصغير الذي كان يجلس عليه الكبار والصغار، شكله مربع ويعلو سطحه حبل مشدود لا ظهر يستند عليه وبعضه كان يصنع من البلاستيك، رغم تفاوت صنعه بين القش والبلاستيك، إلا أنه ما زال مطلوباً، وما اختلف فيه هو صنعه من القش والخيزران معاً. صحيح أن كلفته زادت لكن جلسته باتت مريحة أكثر بعدما أصبح شكله مرتفع الظهر ومقاومته لعوامل الطبيعة من ماء وشمس وهواء أقوى وأفضل، بكثير مما هي عليه الكراسي الخشبية العادية”.
حول دور الدولة في دعم هذه الحرفة يوضح المعلم سلمان، كما يناديه مساعدوه، أنها تدعم من خلال التوصية باستحداث كراس للمقاهي مصنوعة من الخيزران، تشجيعاً منها لهذه الحرفة ولما يحويه الخيزران من فوائد صحية للإنسان من جهة، والمحافظة على تراث المقهى اللبناني الأصيل من جهة أخرى”.
الصيني والماليزي
وعن المواد المستعملة وصناعتها، يوضح سلمان “أن مادة الخام، أي الخيزران والقش، مكلفة لجودتها ومتانتها العالية التي لا تعرف حدوداً لا لزمان ولا لمكان، وتعود هذه الأسباب إلى البلد وطبيعته التي ينمو داخلها، فالخيزران الماليزي هو من أهم الأنواع التي نضعها في مهنتنا، ويعرف ذلك من لديه خبرة في هذا المجال، كذلك الصيني فيه الجودة ويعتبر أرضية أساسية في بناء هيكلية مصنوعاتنا”
يضيف: “ما يستورد من منتوجات الخيزران من السوق الصيني لا يمت بصلة إلى أصالة عملنا بنوعيته وجودته، لأنهم في بلده المنشأ يعملون على إدخاله إلى الأفران لتلوينه بواسطة الآلات البخاخة لتوفير الوقت واليد العاملة، ما يفقد في صناعته القوة والصلابة ويضعف بنيته الداخلية لتصبح هشة قابلة للكسر السريع. بينما نحن لا ندخله إلى الأفران ولا نعرضه للحرارة، بل نطليه يدوياً إما بآلة كهربائية خاصة للدهان (الفرد ) أو بواسطة فرشاة. لذا المنتجات الصينية ليس لديها استمرارية للبقاء بعكس منتجاتنا التي تعيش مئات السنين”.
نقابة لا نقابة
للحفاظ على هذه المهنة، يحاول سلمان إقناع زملاء له في هذه الحرفة بانشاء نقابة ينضوون تحت لوائها، “إلا انني لم ألق صدى من أحدهم يشجعني على المضي قدماً، لأن اللجوء إلى عمل منظم كالنقابة، برأيهم، هو آيل للغش وستسقطه الفوضى، لأن النقابات في لبنان فشلت ولم تؤد هدفها المنشود في إحراز تقدم على أي صعيد، بسبب الصعوبات التي تواجهها في مجتمع كل ما يبنى فيه يعمل ضده في غالب الأحيان”.
يرفض المعلم الرواس، فكرة المشاركة بمعارض حرفية، لما تشكله هذه الأخيرة من ظلم له وللمهنة، “ولم تترك للمنافسة الشريفة مكان في ظل أنواع صينية وغيرها، تسلب منا حق التفرد الطليعي في الصنع والتصميم والبيع، ولأن العالم اليوم عرض وطلب وحرفتنا اليدوية هذه عمرها مئات السنين، تريد سنداً ودعماً لتبقى وترقى بالإنسانية إلى مستوى الحس الفني الرفيع الذي كلما كبرنا بالسن أو العمر أصبحت الحاجة اليه أكبر، لأنه نابع من أرضنا وعاداتنا وتقاليدنا، البصمة التي دمغنا بها منذ نعومة أظافرنا لتتجلى فيها صورتنا ماضياً وحاضراً ومستقبلا، وكما الأمر في كل مهنة تحتاج إلى المتابعة والمثابرة من قبلنا ومن قبل الدولة لتقف في وجه كل ما من شأنه إعاقة تطورنا وتقدمنا كلبنانيين في المجالات كافة”.
كلام الصور
1- المعلم سلمان الرواس
2- 3- 4- من المصنوعات اللبنانية